TOP

جريدة المدى > عام > عن الدور الأكاديمي في صناعة الثقافة وتطور الأدب

عن الدور الأكاديمي في صناعة الثقافة وتطور الأدب

نشر في: 30 أكتوبر, 2016: 12:01 ص

(1-2)لستُ منظِّراً ولا مؤرخ أدب، لكني عايشت أجيالاً أدبية واتابع حركة الأدب والثقافة في بلدي. من هنا تتجمع لدي ملاحظات أجد أحيانا من المفيد ذكرها، في الأقل لتأكيد انتباهنا لها وبأمل أن يتناولها باحث علمي بالدرس.  لا في العراق وحده ولكن في كل بلا

(1-2)

لستُ منظِّراً ولا مؤرخ أدب، لكني عايشت أجيالاً أدبية واتابع حركة الأدب والثقافة في بلدي. من هنا تتجمع لدي ملاحظات أجد أحيانا من المفيد ذكرها، في الأقل لتأكيد انتباهنا لها وبأمل أن يتناولها باحث علمي بالدرس.  

لا في العراق وحده ولكن في كل بلاد العرب والبلدان المثيلة لها، بعد الثورات، بعد الحروب، أو الانقابلات، يشغل الصحافة والأوساط الثقافية شعور بأن الأدب سيكون مختلفاً وأن تغيراً حصل أو قد يحصل من دون رؤية لأحد ماذا كان وماذا سيكون. وحين تهدأ الثورة أو الحرب أو الانقلاب يبدأ تكرار صيغة "ما بعد الحرب"، "ما بعد الثورة" واخيراً "ما بعد التغيير". وكأن الأدب كان يرتدي بزةً عسكرية وبعد انتهاء الحدث أبدلها أو سيبدلها بثياب مدنية وستبدأ جلسات الصالونات أو سيتنزه على الشاطئ يتأمل الطبيعة والكون او ان الحداثة كانت في مدخل المدينة تنتظر السماح لها بالدخول..
شخصياً كنت ابتسم لمقولات الأدب بعد الثورة أو بعد التغيير لأن وراء مقولات كهذه جهلا بطبيعة تطور الأدب وبعملية إنتاج الأدب نفسها. توافر شرط الحرية، تباعد البنادق، يعطيان راحة وتنفساً حراً ويمكن إن كنت متوقفاً أن تعاود الكتابة، لكن التحول في طبيعة الأدب ومستواه نقدياً، لهما صلات بأمور كثيرة غير هذه، إبدال ثيمات موضوعات الكتابة ليس دائماً شرط تطور. قد يكون فيها توسع لموضوعات جديدة، لكن هذه يمكن أن يضيفها الزمن ومستجدات الحياة أو توالي النتاج الأدبي الذي يصلنا عبر لغاته أو مترجماً. هذا ليس رهن مرحلة معينة أو حدث. هو رهن العبقريات أو الكفاءات الطالعة والتطور المدني. وهو لا يتوقف على ما يصلنا من مستجدات الكهربائيات والأفلام وموديلات السيارات والأزياء، قد يكون لذلك أثر ولكن ليس جذرياً. قد تصل هذه ولا تصل الحضارة. الشرط المحلي له حكم آخر يختلف.
بعد الحرب العالمية الأولى، شباب انجليز وشباب من الدول الأخرى، شاركوا في الحرب، حملوا السلاح مقاتلين أو مراسلين أو عملوا في المشافي العسكرية. وحين انتهت الحرب، خلعوا هذه البزات وتدفق، في المرحلتين، موج من القصائد الغنائية وعرفنا العشرات من الشعراء المبرزين بينهم ما قدمتُه واخترت له في كتاب "من شعراء الحرب العالمية الأولى..".
هناك، أعقب الحرب تحول في الاقتصاد والحريات والمسارح ومنتديات اللهو والتجارة ونشاط دور النشر، وتزايدها.. هذا لم يحصل لنا بعد الحرب مع إيران، ولا عقب أحداث الكويت ولا بعد الاضطرابات المسلحة داخل البلاد بعد احتلال العراق. المشكلات الأساسية، الأنظمة، المستوى الحضاري ..، بقيت كما هي، بل شهدنا صعوبة عيش ومتاعب فكرية وحياة غير آمنة وخوف يلاحق الناس وكراهات اربكت الحياة والقيم الاجتماعية وظلت الآمال الكبيرة بعيدة تحجبها الخيبة عن الأنظار. مع ذلك، لا في تلك الدول بعد الحرب، ولا عندنا أظهرت تحولات ثقافية كبيرة ولا تغير تغيراً مهماً مستوى وطبيعة الأدب، ظهور روايات وقصائد عن الحرب لا تعني تغيرات مهمة في الكتابة.
لم يكن متوقعاً بعد الحرب العالمية الثانية، في بريطانيا، في أمريكا، وجهي الغرب عندنا، أن يكون النقد الأدبي هو الذي حقق اتساعاً وتحولاً واضحين منذ 1940. وحتى الكتابات الإبداعية الكبرى تضمنت وعياً نقدياً! روايات الجيل الجديد وقصائدهم تبدو كأنها ثيمات تعبر عن أو تخضع لمبادئ نقدية. النقد صار يشغل مركز العالم الأدبي مما لم يكن له مثيل من قبل.
الوصايا والمبادئ النقدية شغلت الساحة. لم يحصل هذا إلا في التاريخ القديم، في الصين في يبح ديناستي وفي الإمبراطورية الرومانية حيث صار النقد جزءاً أو مكوناً من مكونات البلاغة، أي تخلل النقد النصوص!
في تلك الأيام انحسرت السياسة ليخلو الطريق للمواهب، ركدت الفلسفة والكتابات الخيالية اعتبرت من الماضي، مركزية الدراسة في المدارس كانت للبلاغة وهذه تحولت فناً للإقناع، "فن أقناع". هذه نقطة اتصال مهمة بالإبداع..، من ثم تطورت إلى دراسة التكوين الأدبي (النص). وهذا شبيه بما كان عندنا من قبل، حيث كان تعليم فخامات الأسلوب والخطابة .. في الولايات المتحدة وبريطانيا بعد الحرب الثانية كان تواصل بين تطور النص وتطور التركيب اللغوي، مما هيأ العديد من البدايات النقدية الجديدة وحتى شهدنا النقد الأدبي وعلوم اللغة يعمان الساحة وينشغل الناس بالدراسات والنظريات الجديدة.
لنعد إلى ما كان عندنا . إذا كان لابد من مقارنة، أقول : اساتذة اللغة والأدب عندنا كان هذا دورهم أيضاً لكنهم ظلوا ضمن حدودهم الأولى البلاغية،  الأسلوبية، بينما صار أساتذة الأدب والبلاغة وعلوم اللغة هناك يتولون النقد الجديد وكان غالب كتاب النقد والمنظرين في هذه المرحلة، ولحد ما حتى الآن، يعملون أساتذة في الأكاديميات، ومن الأكاديميات خرجت معظم واهم النظريات في الفلسفة والأدب.
أقول من الأكاديميات، ومن أساتذة مرموقين كبار فيها، لا من المقاهي الأدبية ولا من مجالس الأدب او التجمعات التي يتبادلون فيها الثناءات والأمجاد..
كما أن أصحاب الرسائل والأطاريح هناك اتخذوا مما كتبوا مقالات وفصولاً نقدية أثرت المجلات المتخصصة. عندنا للأسف قليلون جداً من فعلوا ذلك. وإن صرت أرى بوادر لمثل هذا في الأيام الأخيرة. الباقون كأنهم كانوا يخشون عالم النقد والكتابات خارج الجامعة والحضور في الصحافة وهذا صنع عزلة بين أساتذة النقد والأدب من جهة وبين ممارسي الكتابات النقدية من غير الأكاديميين من جهة أخرى، علماً بأن نسبة كبيرة من مراجعي الكتب وكتاب المقالات "شبه النقدية" هم أدباء غير مكتملين، المتأدبون هم الأكثر حضوراً في مراجعات الكتب. أود هنا لايضاح القصد أن أشير إلى أن كتابات ت.س. أليوت النقدية وكتبه التي صارت مراجع، كانت مراجعات لكتب! أقول هذا للمقارنة فقط.
هنا تتضح الخسارة، الخسارة من جهتين، الأولى أننا حرمنا من اساتذة الأدب، من أسهامهم في النشاط النقدي. وهذا أورث نقدنا الأدبي نقصاً، فيما يخص المكونات اللغوية والجوانب الفنية التي نحتاج لها، سواء في بلاغة النص وتطور اللغة الشعرية بخاصة ولغة الإبداع بعامة. وهي حاجات أساسية أحياناً لتقدير قيمة النص واستيعابه. كما أن هذا النقص كان سبباً لتغلب المنطق الوصفي والعقلاني على الفني. ما نراه صار قديماً، يظل مهماً ما دام يؤثر في تركيب العبارة وفي الصياغات التعبيرية .. النظر لها بوصفها أموراً ثانوية في حداثة الإبداع نظر غير صحيح. يمكن القول بتفاوت أهميتها ولكنها ميادين تؤسس لصناعة الجملة والسياق وهما المعتمدان في الكتابة.
كان معلم البلاغة في أثينا يسمى "السفسطائي". هذه التسمية أبدلت اليوم إلى صفة أكاديمي، أستاذ، بروفيسور، دكتور ... كانت للبلاغي الاثيني السفسطائي مهمتان واحدة للسفسطة (الفكر) والثانية للبلاغة السياسية وتهيئة الأفراد للقبول في مجلس الحكم. السفسطائي الأثيني يشبه في هذا تدريسي الجامعات الحديثة. من هذه ويوماً بعد يوم تقدم هؤلاء وصولاً إلى حقول النقد وبدأت آراؤهم تصنع قيماً ومناهج وتؤسس مبادئ ونظريات.
والتحول الكبير الآخر الذي حصل هناك هو أن مجلات صغيرة جديدة بدأت بالصدور وأن أقسام الجامعات بدات تصدر مجلاتها وأن العديد من محرري النقد وعلوم اللغة ونسبة مهمة من النصوص كان يكتبها مبدعون وكتاب من أساتذة الجامعات. مجلات مثل كينون Kenyon وسويس Swace وويسترن Western ومجلات أخرى غير أكاديمية مثل البارتيزان ريفيو Partisan Review، (وهي مجلة أدبية أفادتني شخصياً لسنوات طويلة)، كما تصدى أساتذة نقد وشعراء كبار لإصدار انثولوجيات متعددة ومختلفة الرؤى والموضوعات: قصص وأشعار ومقالات مختارة، ما شكل تحركا ونشاطاً واسعين. وإذا أضفنا العديد من المجلات والدوريات المستقلة البعيدة عن المعاهد والمؤسسات، نكون أمام حركة نشر تطورية واسعة.
لو رجعنا إلى بلادنا العربية، نجد انه بعد ثورة يوليو في مصر، قد صدر العديد من المجلات واقيمت مؤسسات ثقافية للنشر والمسرح والفنون الموسيقية والتمثيل وأسهم عدد ممتاز من أساتذة الجامعات في الإدارة والبحوث وتأليف الكتب أو ترجمتها. وحصل في العراق ما هو قريب من ذلك بعد 1958 و 1963 : أيضاً مجلات عديدة ودائرة للشؤون الثقافية وأخرى للفنون والموسيقى وثالثة للسينما والمسرح. وهي وإن كانت أقل من مماثلاتها المصرية لكنها وجدت وأعطت ما لا يستهان به. وكما يتضح لنا، أسهمت في هذا النشاط مجلات وكتاب وباحثون ورجال فكر وهذا يمكن، مع احترام الفارق أن يشبه ما عرضناه في أمريكا وبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية. سؤالنا : لماذا لم تصنع هذه كلها حركة ثقافية واسعة ولم تحدث تطوراً كبيراً كما أشرنا له في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية؟ ظل الأدب والنقد عندنا وفي وطننا العربي يتطوران بفعل مصادر أخرى خارج إصدارات الداخل، إلا بقدر. السبب هو أن أساتذة الجامعات لم يكونوا فاعلين جداً وكانوا يشعرون بمسافة فاصلة عن الأوساط الثقافية، كما أن نسبة كبيرة منهم، مع الاحترام، ليسوا بمستوى الأساتذة المؤثرين هناك.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

تنويعات في الوضوح

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

مقالات ذات صلة

الحصيري في ثلاثة أزمنة
عام

الحصيري في ثلاثة أزمنة

زهير الجزائري معي في الصف حتى نهاية الدراسة الابتدائية صبي مميز في مكانه وهيأته واجتهاده. يجلس بوقار في منتصف الصف الأمامي. وهو الوحيد الذي بقي يرتدي دشداشة نظيفة مزررة حتى العنق. شفع له كونه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram