حينما تكون في ربوع ضيعة تولستوي في مدينة تولا التي تبعد عن موسكو نحو 193 كم يساورك الشعور بانك انتقلت الى عصر آخر الى مدنية وثقافة اخرى، حيث جمد التاريخ هنا محافظا على حيوتيه ونبضه، وتسمع منه صوت وافكار وحياة ليف تولستوي وتحس باجواء رواياته، وي
حينما تكون في ربوع ضيعة تولستوي في مدينة تولا التي تبعد عن موسكو نحو 193 كم يساورك الشعور بانك انتقلت الى عصر آخر الى مدنية وثقافة اخرى، حيث جمد التاريخ هنا محافظا على حيوتيه ونبضه، وتسمع منه صوت وافكار وحياة ليف تولستوي وتحس باجواء رواياته، ويحدثك المقيمون على متحفه عن تولستوي وكانه غادر داره امس.
وعن يومياته وولعه بالحراثة وركوب الخيل وتعليم اطفال الفلاحين، وترى الاقلام والاوراق التي سطر عليها اعماله العريقه والكرسي الواطئ الذي كان يجلس عليه، والبيانو التي عزف عليه والكنبة التي جلس عليها لقراءة الرسائل التي كانت تصله يوميا بالمئات للرد عليها، ويعرضون عليك حينما يعرفون انك عربي في المكتبة التي تضم الآلاف الكتب بعدة لغات، نسخة من القران الكريم التي وضع تولستوي على هوامشه عشرات الخطوط والتاكيدات ما يشهد انه درسه بامعان وتفكير، وغيرها من المواد الصغيرة التي تحيي المكان وتعيد للزمن روحه. وياسنيا بوليانيا اليوم هي بالاضافة كونها متحفا فانها مركز علمي وثقافي واجتماعي تقام فيها مختلف المحافل الثقافية والفنية وتصدر عنه الكتب والمجلات الادبية.
اتيحت لي فرصة المشاركة الاسبوع الماضي في اعمال المؤتمر السنوي المكرس لاديب ومفكر روسيا العظيم ليف تولستوي. وجرت اعمال المؤتمر على مدى اربعة ايام في متحف وضيعة ياسنيا بوليانيا. وينعقد هذا المؤتمر سنويا بالتعاون بين ادارة "جامعة القديس تيخنوف الارثذوكسية الانسانية" الواقعة بموسكو ومتحف ضيعة ياسنيا بوليانا.
وعلى ما اعتقد فاني المواطن العراقي الثاني الذي حالفه الحظ إمضاء عدة ايام في الاجواء التاريخية الساحرة النابضة بروح تولتسوي ودارسيه، بعد المؤرخ والدبلوماسي الراحل نجدة فتحي صفوة ، الذي زار المكان حين عمله في موسكو في ستينات القرن الماضي، ووصف زيارته بالتفصيل لياسنيا بولينيا في كتابه "العرب في الاتحاد السوفياتي."
ولم يكن من الصدفة ان يكرس المؤتمر اعماله لعام 1866 في حياة الاديب والمفكر الروسي. فهذا العام ينطوي على اهمية كبيرة في تاريخ روسيا واوروبا باسرها. لقد شهد العام استمرار الاصلاحات الكبرى، وكان عام اول محاولة لاغتيال القيصر الكسندر الثاني، وخلاله صدرت رواية فيودور دوستويفسكي "الجريمة والعقاب" ومواصلة ليف تولستوي كتابة رواية "الحرب والسلام" ، كما نشرفي العام نفسه إيفان ميخايلوفيتش سيتشينوف عالم فيزيولوجيا والمفكر المادي الروسي البارز عمله الشهير "منعكسات الدماغ" الذي كانت له اهمية اجتماعية وسياسة عميقة، وهو ايضا عام افتتاح الكونسرفاتوري بموسكو. وفي اوربا اندلعت "حرب الإخوة" بين النمسا وبروسيا صاعدة القوة، وانتشار كتاب كارل ماركس "الرأسمال" والتطور العاصف للحركة الاشتراكية وغيرها الكثير من الاحداث. وتناولت المداخلات جوانب مختلفة للحياة التاريخية والثقافية التي مضى عليها 150 عاما، ولكن تداعياتها مازالت قائمة على تطورات عصرنا الحالي.
واثارت التقارير التي قُرئت خلال المؤتمر الكثير من الاسئلة والاضافات بما في ذلك تقرير خبيرة متحف ياسنايا بولانيا غالينا الكسيفا عن : الدبلوماسي الامريكي يوجين سكايلير الذي ارتبط بعلاقات حميمية مع تولستوي، وقام باول ترجمة لاعماله بالانجليزية عام 1860 ، كما قدم كاتب هذا السطور فالح الحمراني ورقة عن ليف تولستوي في الادب العربي، تابعت مسار ترجمة اعمال الكاتب الروسي العظيم للعربية وتاثيرها على الكتاب والادباء العرب، واستقبال افكاره في المجتمعات العربية لافكاره ودور الباحثين العراقيين حياة شرارة ومحمد يونس وجميل نصيف وجليل كما الدين بنشر ادبه.
كما استمع المؤتمر الى تقارير عن القفقاز في ابداعات تولستوي، واخرى تناولت الحركة الثقافية التي سادت منتصف القرن التاسع عشر في روسيا حيث كانت تبحث عن سبل التطور والتمدن والالتحاق باوروبا، وما اثارته الاعمال الفنية والادبية والدعوات الدينية واللادينية من جدل على نطاق اجتماعي من بينها تقرير عن لوحة الفنان نيقولاي جي (1831—1894) " العشاء الاخير" الذي طرح العلاقات بين السيد المسيح ويهودا الذي وشى به. واخرى عن دعوة الفليلسوف الروسي فلاديمير سولوفيوف ( 1820 ـ 1879 ) في احدى محاضرته ذائعة الصيت حينها الى القيصر الكسندر الثالث للرحمة بقتلة والده الكسندر الثاني في آذار 1881 . كما استمع المؤتمر باهتمام الى تقرير مفصل للباحث المعروف المختص بدستويفسكي كارين ستيبنيان عن موضوعة رواية "الجريمة والعقاب" ومكانتها بادب دستويفسكي. وكرست الباحثة يلينا كنور تقريرها عن تاثير اكتسافات سيتشينوف في مجال الفيزيالوجيا على الادب والتي تجلت في رواية ايفان تورجينيف "الأبناء والبنون"، كما تناول الباحث فلادير كنور بعض الظواهر السبية في مؤسسة الكنيسة الروسية في الوقت الحالي بما في ذلك محاولات تبرير الحرب والاستعداد لها بما ذلك استعمال السلاح النووي حينما تقتضي الظروف، فضلا عن دعوة بعض رجال الدين الروس احياء ذكرى بعض الطغاة والحكام في تاريخ روسيا القديم والمعاصر.
واختتم المؤتمر اعماله بجولة واسعة في ربوع ضيعة ياسنيا بولينيا التي تسربلت اشجارها الكثيفة باللون الخريفي الذهبي والضارب للحمرة استعدادا لفصل الشتاء القارس والطويل والتلحف بالثلج. كما زار المشاركون في المؤتمر دار تولستوي وشاهدوا بام عيونهم المائدة التي سطر عليها اعماله العظيمة والغرفة التي غادرها متوجها الى القفقاز للعزلة والتامل، ولكنه توفى في الطريق وكذلك الغرفة التي تم توديعه منها ودفنه في قبر متواضع جداد حسب وصيته.