المدهش في مذكرات أجاثا كريستي " تعال قل لي كيف تعيش " الدقة والضبط ، ومهارة التقاط خفايا المكان والانتباه لزواياه ورسم حدوده ، وتوصيف الأعداد الكثيرة من العاملين ووظائفهم وكيفية تعاملهم مع المكان ، وكشوفاته المندثرة سابقاً .دائماً ما رسمت كريستي تنوع
المدهش في مذكرات أجاثا كريستي " تعال قل لي كيف تعيش " الدقة والضبط ، ومهارة التقاط خفايا المكان والانتباه لزواياه ورسم حدوده ، وتوصيف الأعداد الكثيرة من العاملين ووظائفهم وكيفية تعاملهم مع المكان ، وكشوفاته المندثرة سابقاً .
دائماً ما رسمت كريستي تنوع العلاقات الموجودة بين أفراد الفريق . طرفان ، الأول العمال من أبناء المنطقة والآخر هو الفريق الثاني المكلف بمهمة الحفريات .
الابتداء بالتنقيب ، من أكثر اللحظات ترقباً وإثارة للتحفز ويظل المتلقي بانتظار الدهشة ، التي يوفرها له مثل هذا النص . هو نص يتوفر على كشوف ، تمنح نفسها تدريجياً للمتلقي بحيث تتحول التلة ، أو مجموع التلال الى نص اكبر . دائماً ما تكون نهايته سعيدة .
والأكثر دهشة ، هي مدونات أجاثا كريستي البسيطة والجميلة ، وكأنها جزء من عمل سردي طويل ، تتمظهر طاقتها بالإعلان الانثربولوجي عن المكان وسكانه ، ومكانتهم الدينية والطائفية والقومية ، بحيث كانت سرديات أجاثا كريستي وثائق سردية ، صاغت قاعدة معلومات مهمة عن مدينة كانت متمتعة بحضور في الماضي .
تضيء الحفريات العديد من الكشوف عما كان مختفياً تحت التراب . ليس هذا فقط ، بل القيام بدور ثقافي مهم وخطير ، لا يختلف عن الدور الذي لعبه الاستشراق ، وكان سعيه باتجاه الكشف عن الحضارات القديمة والذي ابتدأ في القرن السابع عشر ، مدعوماً بمراكز بحوث ودراسات . واستطيع القول بأن التلال التي اشتغلت عليها أجاثا كريستي وزوجها مالوان ، هي نصوص فيها تمثيلات لأزمنة سابقة .
وفيها وقائع نصية ، أعلنت عن تدوينات مهمة ، وشكلت لدينا سرديات جوهرية . ولذا حضرت ملاحظة مركزية في ذهني ، وانا اتابع هذه المذكرات وقد انشددت لها من قبل أن احصل على ما أريد من التوفر على موقف واضح وصريح ، للعلاقة بين هذه المهمة ومؤسسات الاستشراق ، الساعية للإعلان عن ثقافة هيمنة كولونيالية ، تبدّت في مذكرات أجاثا كريستي التي قدمت الشرق وجعلت آخر وأخضعته للأوربي ، وبالصورة المرسومة لنا . وجسد الآخر الغربي وظائف سلطته باعتبارها ثقافة ومعرفة قادرة على الإخضاع والإزاحة "أن الإجراءات التي عرف الغرب بها الشرق كانت سبيلاً لمدّ السلطة عليه" .
ان للنصوص الاستشراقية دنيويتها واندماجها ، نصوص تعمل لتنشئ الشرق ، ليصبح ، بمعنى ما " أكثر حقيقية " من أي واقع شرقي فعلي وأكثر حقيقية من أية تجربة أو تعبير عن تلك التجربة ، بيل شكروفت وبال هللوليا / ادوار السعيد / ت : سهيل نجم ص 17//
كانت فرق التنقيب التي زارت الشرق كثيرة جداً ونجحت في كشوفها الجديدة ولأول مرة في سومر وأكد ، ولابد من استذكار الدور الذي قام به جورج سميث في كشوفه الأثرية وسط مدينة نينوى ، وما وفرته من ألواح ملحمة جلجامش والتي أفضت لاحقاً للدرس التوراتي ، للعلاقة الموجودة بين الملحمة وأسطورة الطوفان .
هذه المذكرات تكرارية التباين والاختلاف فيها قليل ويكون في أحيانا نادراً ، بسبب طاقة السرد ومهارة أجاثا كريستي . التباين حاصل بسبب اختلاف المكان والعقد الأرضية فيه ، المنتجة للصعوبات المفروضة من المحيط الأوسع ، وأحيانا بسبب ما ينشأ من حوادث وإشكالات ، تؤثر على فعالية فريق التنقيب ، الذي دائماً ما يبدأ بالعمل وبذهنه تصورات بسيطة للغاية ، لكن ما يبرز لاحقاً مع النتنائج ، تتبّدى تعقيدات ، تفجرها العلاقات الطائفية والقومية بين العمال ، تفضي الى توترات دموية حادة جداً . وهناك ظروف إنسانية صعبة وقاسية وخصوصاً في فصل الشتاء ، حيث تبدو كشوفات العمل مبعث سعادة تعوض نفسياً المتاعب التي واجهتهم ، وهذا ما ركزت عليه أجاثا كريستي في مذكراتها ، بلغة سردية جيدة ، استوعبت فضاء المكان ، ورائحة ماضية ، الفواحة من خلال اللقى الكثيرة ، ورسومها والرموز المدونة عليها . هذه المكتشفات مثلما قلت هي أصل مدينة ، وحضارة كانت قبلاً ، وعتبة قديمة من عتبات التاريخ . انها نصوص تنطوي على تعدد لغات ، تؤكد على ماضٍ مهم وحيوي ، توصل إليه فريق عمل متنوع الاهتمام والوظائف لكن كلهم ينتجون مدونات الاكتشاف وهذا جوهر مثل هذه التجارب التي غامر الأخر كثيراً من اجل التوصل إليها .
لم تكن مذكرات أجاثا كريستي ، يوميات العمل في مناطق سورية وسط عزلة تامة ، بعيدة عن الذاكرة ، فكل الحفريات الاثرية تركت لنا تفاصيل بسيطة ، كاشفة عن مكان ما يتحول تدريجياً الى جزء من حياة الفريق المكلف بالتنقيب ، أو المتطوع مدعوماً من جهة ما ، من اجل الوصول الى سرديات قديمة ، تضيء كثيراً من الحقائق والوقائع . واهم ما يلفت الانتباه في مذكرات كريستي وحيويتها وابتعادها عن تفاصيل واسعة ليس عن كل يوم من أيام الحفريات . بل كانت تركز في مدوناتها على ظاهرة متميزة في الرحلة الصعبة والمعقدة ، أو المتاعب الكثيرة التي تزيد الفريق إصراراً على العمل والتنقيب ، والتعايش مع الظروف التي لا يقوى عليها إلا أبناء المكان ...... ولان أجاثا كريستي روائية معروفة على نطاق واسع ، كان حضورها ملفتاً للانتباه ومتميزاً بقدرتها ومهارتها في معاينة المكان ظاهراتياً ، وتعاملت معه بوصفه شبكة أسرار ، ومخفيات ، تبث لنا بهدوء بعض توقعاتها وتصورات فريق العمل بعدده القليل ، وحماسه الواضح . تميزت هذه المذكرات ( تعال قل لي كيف تعيش ) ت : أكرم الحمصي والصادرة عن دار المدى عام 2015// بملمح بنائي مهم وتكونت المذكرات من ثلاثة عشر فصلاً . كل منها سردية ، مستقلة عن غيرها ، وكل واحدة لها خصائص مكانية منفردة ، وصعوباتها خاصة ، والتعقيدات المحيطة لا تعطل عمل الفريق الصغير بعدده ، والحيوي بانجازاته وتحققاته . وكلما كان هكذا تتسع الحياة أمامهم وتنشر السعادة والفرح ، لان المكشوفات هي الباعث على كل ذلك وكأن فريق العمل ، المتنوع بوظيفته الفنية منهمك بما هو عليه من وظيفة . يتوجب استكماله ، والملفت للانتباه حيوية كريستي وتنوع مهامها ، لكني أنشدت لها لحظة خلوتها لتدوين ملاحظات جوهرية عن تفاصيل العمل . وللحقيقة كانت سردياتها العميقة والمتسعة مثيرة للدهشة ، لأنها لم تكن إعادة إنتاج لملاحظات سجلت في استراحة قصيرة بعد التوقف عن العمل ، بل هي متميزة للغاية بتفاصيل سردية واضاءات مكانية ، كافية للتعرف على شخصية كريستي الأدبية ، وخبرتها في التوجه لما هو جوهري في العمل اليومي ، والذي يكاد يتماثل في كثير من التفاصيل . لكنها تفلت بمهارة الخبير والراصد ، وتذهب نحو زوايا تعينها هي وربما لا تثير اهتمام غيرها . من هنا كانت كريستي في مذكراتها قد حققت نجاحاً وتميزاً بكتابة فصول سردية طويلة عن أماكن سورية عديدة وتمظهرت في تلك السرديات ممكنات إعادة إنتاجها روائيا . ولهذه الظاهرة أسباب ليست خافية على المتلقي ، لها صلة بإمكانات أجاثا كريستي المعروفة بالسرد وتميزها بالإضافة الى شهرتها العالمية.
***************
قلت في البداية بأن مهام التنقيبات الصعبة في فضاءات مجهولة ليست بريئة تماماً ، أو ذات وظيفة واحدة ، بل هي متنوعة الغايات . وأهمها اقترانها بمؤسسات استشراقية ، ساعية لاكتشاف الشرق والتمكن من صياغة الخطاب الخاص به ، وتكوين سياق كامل من الأفكار وتصويره ، وهو الذي اسماه المفكر ادوارد سعيد بالجغرافيا المتخيلة . ويدرك الآخر جيداً من أن انكشاف الشرق والتعرف عليه يساعد الآخر على خلقه والسيطرة عليه ، لذا أكد ادوارد سعيد بأن نمو الاستشراق متزامن مع لحظة نمو وصعود الاميريالية . ونستطيع التأكيد بأن النتائج النهائية للحفريات في سوريا ، هي عبارة عن رسم لتصورات كاملة ، ستساعد على السيطرة والهيمنة على الشرق . وأشار سعيد بأن الاستشراق تمكن من تكوين نظرية تتضمن كل شيء ، كذلك فما نتحدث عنه في العادة على انه من خصوصيات التجربة الإنسانية ، يجمع تحت العنوان العام بـ ( الشرقي ) لذلك تغدو الشخصية الشرقية نوعاً من الخلق الخيالي والإيديولوجي .
ما يضيء هذا الجانب الملتقطات الحياتية البسيطة ، ذات العلاقة المباشرة بحياة الأفراد ، رجالاً ونساءً ، دياناتهم ، قومياتهم ، ملابسهم ، أمراضهم وسائل العلاج ، تفاصيل العلاقات فيما بينهم ، وبين فريق العمل والتفكير بالثراء السريع ، بالإضافة الى النزاعات والمشاجرات التي لا تتحكم بها إلا الأعراف وليس سيادة القانون .
الأرمن هم الأكثر ذكاء بكافة المعايير . لكن نقطة ضعفهم تكمن في سلوكهم الاستفزازي ، فهم ينجحون باستمرار في إثارة حفيظة الأكراد والعرب . لكن الشجارات ، بمطلق الأحوال ، لا تتوقف ، فأمزجة كافة العمال لدينا حامية وهم يصطحبون معهم أدوات التعبير عن أنفسهم من مدُى كبيرة وهراوات ونوع من الدبابيس أو النبوت / وسرعان ما تشق الرؤوس ويشتبك أشخاص غاضبون في صراعات عنيفة قبل أن يتم فك الاشتباك بينهم ص 112//
وأخيراً لابد من الإشارة للعين السردية الثاقبة التي تمتعت بها كريستي وقدمت فصولاً سردية خاصة بكل مكان من الأماكن العديدة التي حصلت فيها الحفريات " الجو يزداد حرارة وتنبت كل أنواع الزهور . لا اعتبر نفسي عالمة نبات ولا اعرف أسماء هذه الزهور ولا ارغب بصراحة في معرفتها . فأية متعة ينالها المرء من معرفة أسماء الأشياء ؟ ومع ذلك هناك أزهار زرقاء . وبنفسجية كأزهار ترمس صغيرة وأخرى ذهبية كأزهار الماريغولد وأخرى دقيقة كالرز ذات لون احمر داكن . أصبحت تلك التلال جميعها الآن ثورة من الألوان" . انه بالفعل " السهب الخصيب " ص 145//
ما تثيره هذه المذكرات في فصولها الأخيرة ، ابتداء توتر سياسي وارتفاع أصوات الحرب العالمية الثانية . ففي الوقت الذي يتحمس فيه الآخر ، عبر خطة دقيقة للكشف عن الشرق ، المدفون تحت طبقات الأرض من اجل التعرف عليه أكثر وإخضاعه ، يندفع ـ الآخر ـ لتدمير الحاضر وتخريبه .