TOP

جريدة المدى > عام > أجاثا كريستي.. البحث عن الماضي والكشف عن سرديات التاريخ

أجاثا كريستي.. البحث عن الماضي والكشف عن سرديات التاريخ

نشر في: 1 نوفمبر, 2016: 12:01 ص

المدهش في مذكرات أجاثا كريستي " تعال قل لي كيف تعيش " الدقة والضبط ، ومهارة التقاط خفايا المكان والانتباه لزواياه ورسم حدوده ، وتوصيف الأعداد الكثيرة من العاملين ووظائفهم وكيفية تعاملهم مع المكان ، وكشوفاته المندثرة سابقاً .دائماً ما رسمت كريستي تنوع

المدهش في مذكرات أجاثا كريستي " تعال قل لي كيف تعيش " الدقة والضبط ، ومهارة التقاط خفايا المكان والانتباه لزواياه ورسم حدوده ، وتوصيف الأعداد الكثيرة من العاملين ووظائفهم وكيفية تعاملهم مع المكان ، وكشوفاته المندثرة سابقاً .
دائماً ما رسمت كريستي تنوع العلاقات الموجودة بين أفراد الفريق . طرفان ، الأول العمال من أبناء المنطقة والآخر هو الفريق الثاني المكلف بمهمة الحفريات .
الابتداء بالتنقيب ، من أكثر اللحظات ترقباً وإثارة للتحفز ويظل المتلقي بانتظار الدهشة ، التي يوفرها له مثل هذا النص . هو نص يتوفر على كشوف ، تمنح نفسها تدريجياً للمتلقي بحيث تتحول التلة ، أو مجموع التلال الى نص اكبر . دائماً ما تكون نهايته سعيدة .
والأكثر دهشة ، هي مدونات أجاثا كريستي البسيطة والجميلة ، وكأنها جزء من عمل سردي طويل ، تتمظهر طاقتها بالإعلان الانثربولوجي عن المكان وسكانه ، ومكانتهم الدينية والطائفية  والقومية ، بحيث كانت سرديات أجاثا كريستي وثائق سردية ، صاغت قاعدة معلومات مهمة عن مدينة كانت متمتعة بحضور في الماضي .
تضيء الحفريات العديد من الكشوف عما كان مختفياً تحت التراب . ليس هذا فقط ، بل القيام بدور ثقافي مهم وخطير ، لا يختلف عن الدور الذي لعبه الاستشراق ، وكان سعيه باتجاه الكشف عن الحضارات القديمة والذي ابتدأ في القرن السابع عشر ، مدعوماً بمراكز بحوث ودراسات . واستطيع القول بأن التلال التي اشتغلت عليها أجاثا كريستي وزوجها مالوان ، هي نصوص فيها تمثيلات لأزمنة سابقة .
وفيها وقائع نصية ، أعلنت عن تدوينات مهمة ، وشكلت لدينا سرديات جوهرية . ولذا حضرت ملاحظة مركزية في ذهني ، وانا اتابع هذه المذكرات وقد انشددت لها من قبل أن احصل على ما أريد من التوفر على موقف واضح وصريح ، للعلاقة بين هذه المهمة ومؤسسات الاستشراق ، الساعية للإعلان عن ثقافة هيمنة كولونيالية ، تبدّت في مذكرات أجاثا كريستي التي قدمت الشرق وجعلت آخر وأخضعته للأوربي ، وبالصورة المرسومة لنا . وجسد الآخر الغربي وظائف سلطته باعتبارها ثقافة ومعرفة قادرة على الإخضاع والإزاحة "أن الإجراءات التي عرف  الغرب بها الشرق كانت سبيلاً لمدّ السلطة عليه" .
ان للنصوص الاستشراقية دنيويتها واندماجها ، نصوص تعمل لتنشئ الشرق ، ليصبح ، بمعنى ما " أكثر حقيقية " من أي واقع شرقي فعلي وأكثر حقيقية من أية تجربة أو تعبير عن تلك التجربة ، بيل شكروفت وبال هللوليا / ادوار السعيد / ت : سهيل نجم ص 17//
كانت فرق التنقيب التي زارت الشرق كثيرة جداً ونجحت في كشوفها الجديدة ولأول مرة في سومر وأكد ، ولابد من استذكار الدور الذي قام به جورج سميث في كشوفه الأثرية وسط مدينة نينوى ، وما وفرته من ألواح ملحمة جلجامش والتي أفضت لاحقاً للدرس التوراتي ، للعلاقة الموجودة بين الملحمة وأسطورة الطوفان .
هذه المذكرات تكرارية التباين والاختلاف فيها قليل ويكون في أحيانا نادراً ، بسبب طاقة السرد ومهارة أجاثا كريستي . التباين حاصل بسبب اختلاف المكان والعقد الأرضية فيه ، المنتجة للصعوبات المفروضة من المحيط الأوسع ، وأحيانا بسبب ما ينشأ من حوادث وإشكالات ، تؤثر على فعالية فريق التنقيب ، الذي دائماً ما يبدأ بالعمل وبذهنه تصورات بسيطة للغاية ، لكن ما يبرز لاحقاً مع النتنائج ، تتبّدى تعقيدات ، تفجرها العلاقات الطائفية والقومية بين العمال ، تفضي الى توترات دموية حادة جداً . وهناك ظروف إنسانية صعبة وقاسية وخصوصاً في فصل الشتاء ، حيث تبدو كشوفات العمل مبعث سعادة تعوض نفسياً المتاعب التي واجهتهم ، وهذا ما ركزت عليه أجاثا كريستي في مذكراتها ، بلغة سردية جيدة ، استوعبت فضاء المكان ، ورائحة ماضية ، الفواحة من خلال اللقى الكثيرة ، ورسومها والرموز المدونة عليها . هذه المكتشفات مثلما قلت هي أصل مدينة ، وحضارة كانت قبلاً ، وعتبة قديمة من عتبات التاريخ . انها نصوص تنطوي على تعدد لغات ، تؤكد على ماضٍ مهم وحيوي ، توصل إليه فريق عمل متنوع الاهتمام والوظائف لكن كلهم ينتجون مدونات الاكتشاف وهذا جوهر مثل هذه التجارب التي غامر الأخر كثيراً من اجل التوصل إليها .
لم تكن مذكرات أجاثا كريستي ، يوميات العمل في مناطق سورية وسط عزلة تامة ، بعيدة عن الذاكرة ، فكل الحفريات الاثرية تركت لنا تفاصيل بسيطة ، كاشفة عن مكان ما يتحول تدريجياً الى جزء من حياة الفريق المكلف بالتنقيب ، أو المتطوع مدعوماً من جهة ما ، من اجل الوصول الى سرديات قديمة ، تضيء كثيراً من الحقائق والوقائع . واهم ما يلفت الانتباه في مذكرات كريستي وحيويتها وابتعادها عن تفاصيل واسعة ليس عن كل يوم من أيام الحفريات . بل كانت تركز في مدوناتها على ظاهرة متميزة في الرحلة الصعبة والمعقدة ، أو المتاعب الكثيرة التي تزيد الفريق إصراراً على العمل والتنقيب ، والتعايش مع الظروف التي لا يقوى عليها إلا أبناء المكان ...... ولان أجاثا كريستي روائية معروفة على نطاق واسع ، كان حضورها ملفتاً للانتباه ومتميزاً بقدرتها ومهارتها في معاينة المكان ظاهراتياً ، وتعاملت معه بوصفه شبكة أسرار ، ومخفيات ، تبث لنا بهدوء بعض توقعاتها وتصورات فريق العمل بعدده القليل ، وحماسه الواضح . تميزت هذه المذكرات ( تعال قل لي كيف تعيش ) ت : أكرم الحمصي والصادرة عن دار المدى عام 2015// بملمح بنائي مهم وتكونت المذكرات من ثلاثة عشر فصلاً . كل منها سردية ، مستقلة عن غيرها ، وكل واحدة لها خصائص مكانية منفردة ، وصعوباتها خاصة ، والتعقيدات المحيطة لا تعطل عمل الفريق الصغير بعدده ، والحيوي بانجازاته وتحققاته . وكلما كان هكذا تتسع الحياة أمامهم وتنشر السعادة والفرح ، لان المكشوفات هي الباعث على كل ذلك  وكأن فريق العمل ، المتنوع بوظيفته الفنية منهمك بما هو عليه من وظيفة . يتوجب استكماله ، والملفت للانتباه حيوية كريستي وتنوع مهامها ، لكني أنشدت لها لحظة خلوتها لتدوين ملاحظات جوهرية عن تفاصيل العمل . وللحقيقة كانت سردياتها العميقة والمتسعة مثيرة للدهشة ، لأنها لم تكن إعادة إنتاج لملاحظات سجلت في استراحة قصيرة بعد التوقف عن العمل ، بل هي متميزة للغاية بتفاصيل سردية واضاءات مكانية ، كافية للتعرف على شخصية كريستي الأدبية ، وخبرتها في التوجه لما هو جوهري في العمل اليومي ، والذي يكاد يتماثل في كثير من التفاصيل . لكنها تفلت بمهارة الخبير والراصد ، وتذهب نحو زوايا تعينها هي وربما لا تثير اهتمام غيرها . من هنا كانت كريستي في مذكراتها قد حققت نجاحاً وتميزاً بكتابة فصول سردية طويلة عن أماكن سورية عديدة وتمظهرت في تلك السرديات ممكنات إعادة إنتاجها روائيا . ولهذه الظاهرة أسباب ليست خافية على المتلقي ، لها صلة بإمكانات أجاثا كريستي المعروفة بالسرد وتميزها بالإضافة الى شهرتها العالمية.
***************
قلت في البداية بأن مهام التنقيبات الصعبة في فضاءات مجهولة ليست بريئة تماماً ، أو ذات وظيفة واحدة ، بل هي متنوعة الغايات . وأهمها اقترانها بمؤسسات استشراقية ، ساعية لاكتشاف الشرق والتمكن من صياغة الخطاب الخاص به ، وتكوين سياق كامل من الأفكار وتصويره ، وهو الذي اسماه المفكر ادوارد سعيد بالجغرافيا المتخيلة . ويدرك الآخر جيداً من أن انكشاف الشرق والتعرف عليه يساعد الآخر على خلقه والسيطرة عليه ، لذا أكد ادوارد سعيد بأن نمو الاستشراق متزامن مع لحظة نمو وصعود الاميريالية . ونستطيع التأكيد بأن النتائج النهائية للحفريات في سوريا ، هي عبارة عن رسم لتصورات كاملة ، ستساعد على السيطرة والهيمنة على الشرق . وأشار سعيد بأن الاستشراق تمكن من تكوين نظرية تتضمن كل شيء ، كذلك فما نتحدث عنه في العادة على انه من خصوصيات التجربة الإنسانية ، يجمع تحت العنوان العام بـ ( الشرقي ) لذلك تغدو الشخصية الشرقية نوعاً من الخلق الخيالي والإيديولوجي .
ما يضيء هذا الجانب الملتقطات الحياتية البسيطة ، ذات العلاقة المباشرة بحياة الأفراد ، رجالاً ونساءً ، دياناتهم ، قومياتهم ، ملابسهم ، أمراضهم وسائل العلاج ، تفاصيل العلاقات فيما بينهم ، وبين فريق العمل والتفكير بالثراء السريع ، بالإضافة الى النزاعات والمشاجرات التي لا تتحكم بها إلا الأعراف وليس سيادة القانون .  
الأرمن هم الأكثر ذكاء بكافة المعايير . لكن نقطة ضعفهم تكمن في سلوكهم الاستفزازي ، فهم ينجحون باستمرار في إثارة حفيظة الأكراد والعرب . لكن الشجارات ، بمطلق الأحوال ، لا تتوقف ، فأمزجة كافة العمال لدينا حامية وهم يصطحبون معهم أدوات التعبير عن أنفسهم من مدُى كبيرة وهراوات ونوع من الدبابيس أو النبوت / وسرعان ما تشق الرؤوس ويشتبك أشخاص غاضبون في صراعات عنيفة قبل أن يتم فك الاشتباك بينهم ص 112//
وأخيراً لابد من الإشارة للعين السردية الثاقبة التي تمتعت بها كريستي وقدمت فصولاً سردية خاصة بكل مكان من الأماكن العديدة التي حصلت فيها الحفريات " الجو يزداد حرارة وتنبت كل أنواع الزهور . لا اعتبر نفسي عالمة نبات ولا اعرف أسماء هذه الزهور ولا ارغب بصراحة في معرفتها . فأية متعة ينالها المرء من معرفة أسماء الأشياء ؟ ومع ذلك هناك أزهار زرقاء . وبنفسجية كأزهار ترمس صغيرة وأخرى ذهبية كأزهار الماريغولد وأخرى دقيقة كالرز ذات لون احمر داكن . أصبحت تلك التلال جميعها الآن ثورة من الألوان" . انه بالفعل " السهب الخصيب " ص 145//
ما تثيره هذه المذكرات في فصولها الأخيرة ، ابتداء توتر سياسي وارتفاع أصوات الحرب العالمية الثانية . ففي الوقت الذي يتحمس فيه الآخر ، عبر خطة دقيقة للكشف عن الشرق ، المدفون تحت طبقات الأرض من اجل التعرف عليه أكثر وإخضاعه ، يندفع ـ الآخر ـ لتدمير الحاضر وتخريبه .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

تنويعات في الوضوح

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

مقالات ذات صلة

الحصيري في ثلاثة أزمنة
عام

الحصيري في ثلاثة أزمنة

زهير الجزائري معي في الصف حتى نهاية الدراسة الابتدائية صبي مميز في مكانه وهيأته واجتهاده. يجلس بوقار في منتصف الصف الأمامي. وهو الوحيد الذي بقي يرتدي دشداشة نظيفة مزررة حتى العنق. شفع له كونه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram