(2-2)حركة الأدب والنشاط الثقافي تولاها أدباء شباب عصاميون على خلاف ما كان في ذلكما البلدين. حيث تولى المجلات هناك أساتذة أكاديميون معروفون عملوا بحماسة في أجواء رأوها مناسبة لجديدهم. هنا ابتعدوا عن السياسة ومؤسسات الدولة ونأوا عما قد يربك حياتهم، فهم
(2-2)
حركة الأدب والنشاط الثقافي تولاها أدباء شباب عصاميون على خلاف ما كان في ذلكما البلدين. حيث تولى المجلات هناك أساتذة أكاديميون معروفون عملوا بحماسة في أجواء رأوها مناسبة لجديدهم. هنا ابتعدوا عن السياسة ومؤسسات الدولة ونأوا عما قد يربك حياتهم، فهم يلقون محاضراتهم وينظرون من بعد وإن بعدم رضا عن نقص العلمية في "البحوث" الصادرة والدراسات مع استياء صامت، أو لا مبالاة، بالكتابات النقدية والأدبية بعامة.
ولأن العصر انفتح بسعة لم نشهدها من قبل، فقد اعتمد مبدعو النصوص نثراً وشعراً على قراءاتهم ومتابعاتهم لما يكتب وينشر خارج البلاد بلغاتها أو مترجمة. وكذا اعتمد ممارسو النقد على أغناء ثقافتهم بما يترجم من دراسات ونظريات زادها وقرّبها أكثر الأكاديميون الذين درسوا في الخارج فجاءت مؤلفاتهم ومقالاتهم أكثر غنى وعلمية وحداثة مما جعل العديد من منتجي النصوص وعدد طيب من النقاد يتقدمون كثيراً على النسبة الغالبة من الاكاديميين وهي حال غريبة في تاريخ تطور الثقافة والأدب.
مع ذلك، يجب الاعتراف بأن خللاً ملحوظاً أو نقصاً علمياً لا يصعب إدراكه يتضح في بعض من هذه الكتابات السائدة. وهذا يدعونا إلى القول : لو أن هذه الحماسات العظيمة المفرحة في الكتابات النقدية تكاملت بعلمية أكاديمية لتحقق إنجازا كبيرا وأسس مدرسة أو اتجاهات متميزة مثلما شهدنا في البلدين الذين استشهدنا بهما. وهذا تماماً ما بدأنا نشهده في السنوات الأخيرة، فبعض النقاد الشباب أكملوا دراساتهم الاكاديمية العليا والبعض من غير الاكاديميين اتسمت كتاباته بالمنطق العلمي، وهو هذا ما نعول عليه في تطور الأدب ودراساته.
ما نزال نتوق إلى ناقد له باع في علوم اللغة – اللسانيات – وله حساسية مرهفة خاصة لصيغ التعبير وجماليات الأنساق وما له علاقة في صياغة الجملة بنائياً. لو تيسر هذا، وقد تيسر بعض منه، لكان لنا شبيه بـبلاك مور الذي كان يضفي ضوءاً جديداً على القصائد ويشير بدراية إلى جمالياتها الخفية. جرأته وعلمه بتفاصيل تاريخ الأدب وتطوره مكّناه من رؤية ما استجد من القيم الفنية مثلما مكناه من كشف النشازات الايقاعية واضطراب الأنساق. فكشف الاضطراب في شعر د.هـ. لورنس ونشازاته اللاضرورة لها، ولا مسوغ جمالي، د.هـ. لورنس رفضها وحاول أن يسوغها بحجج شبيهة بما يحتج به بعض من الشباب اليوم. لكن د.هـ. لورنس أقر بها ضمنا وتلافاها في مجموعته الشعرية الأخيرة. ولظهر لنا مثل ريتشاردز، الذي كان استاذا في هارفرد فنحا إلى التواصل والسايكولوجي وهما اضافتان للنقد الحديث، وكذا رانسوم الذي أصدر كتابه "النقد الجديد" والذي، للاسف، لم يترجم إلى العربية حتى اليوم. لم يصل النقد بسعة ثقافته لينفذ إلى سر الظاهرة فيقول لنا بإيجاز شديد بأن السوريالية كانت ثورة على الباروك! ما تزال نسبة كبيرة من الكتابات النقدية تجميع أقوال يربط بين هذا وتلك تعقيب أو استدراك أو تاكيد أو اصطناع علاقات.
لكن هذه الملاحظات لا تنفي وجود نقد جديد مبارك، نظيف من المجاملات الودية أو الغضاضات ومن ادعاءات الفهم والإحاطة.. لكن لنا اليوم اسماء شباب وثقوا بانفسهم وثقافتهم ودأبهم على المتابعة للجديد واعتمدوا قراءاتهم وذكاءهم في الوصول إلى ما يفرح حتى لنحييهم وهم من نعول عليهم.
هناك مسائل لها علاقة، وإن كانت غير مباشرة، بمدى حركة الكتابة والنشر. فوجود مجلات لأقسام العلوم والآداب منتظمة تشجع لا على بحوث الترقية حسب ولكن على الاسهام الثقافي اليومي. هي ضرورة ثقافية ووقود نشاط بينما ندرتها تورث تردداً وعجزاً. في البلدين اللذين استشهدنا بهما واجهت الكتابات النقدية في البدء مشكلة المجلات الصغيرة والصحف وهذه كانت تطلب مقالات أو مراجعات بحدود الألف كلمة وفي الأقصى ما يناسب محاضرة بـ45-50دقيقة، لكن حين صاروا في المدى النقدي الواسع وتوافرت المجلات المتخصصة والدوريات صاروا يكتبون العشر والخمس عشرة صفحة عن قصة واحدة أو عن سوناته أو عن ثيمة مختارة من عديدات أو عن رواية من الروايات التي صارت أيضاً تتزايد.
كان هذا مؤشراً بارزاً لحضور النقاد الجدد وتعدد مناهجهم. هؤلاء أشاعوا فهماً ان ما يقرأه القراء العاديون هو أوسع ما يبدو لهم وما يستوعبون. هنا صارت تشيع ثقافة نقدية طورت أو حسنت من نوعية القارئ أيضاً، النقد أشاع أيضاً جانباً تأويلياً وسع من مخيلة عموم قراء الأدب وطلابه. مهمة النقد الآن هي رفع مستوى الإدراك والرؤيا ولقد صار "علماً" له مدارسه وأسماؤه الكبيرة ومجتهدوه.
لقد تحول من Explicate التي تعني يفسر إلى Explain اللاتينية الأصل والتي تعني "يمهد" أو "يجعل ناعما" وخلاف المعنى الذي شاع أخيراً وفيه رِدة إلى يشرح أو يفسر مما كان أصلاً للكلمة الأولى. ونعلم أن الجيل الجديد الذي أعقب هذه المرحلة "التمهيدية" تجاوز هذه الحدود إلى التحليل وإلى اللسانيات والمعارف المكملة للثقافة الأدبية.
النقد اليوم حقل معرفي وللنقاد لغتهم ومصطلحهم الجديد، لا يقلل منه أنه امتداد لذلك الفرنسي الذي كان في القرن السادس عشر. المهم أننا في بلادنا ما عدنا نشعر بالجفاف والمدرسية ونحن نقرأ لأساتذة الأدب الجدد المعروفين. صار هؤلاء يعملون مع النقاد خارج الاكاديمية وفي عالمهم الأدبي الجديد بآفاقه.
بقيت سوءة واحدة، بالنسبة لنا، وهي تشابه وتكرار المصادر حتى القديمة منها والتي تجاوزها مؤلفوها. التوسع في تعلم اللغات الاجنبية كفيل بتلافي هذا المأخذ. أرانا نقدياً بخير – ونبقى بانتظار أن تكون للناقد طريقته وقيمه الجديدة واجتهاده العلمي وأن نقرأ يوماً دراسة مثل تلك التي كتبها ادموند ولسن عن ديكنز ونيوتن ارفن Newton Arvin عن موبي ديك وان يسهم النقد والإبداع في مهمة واحدة هي أن يوسع الرؤية ويعمق احساسنا بالحياة ويوقظ قوى جديدة في العقل البشري ليجد الانسان معناه.
ختاماً، أقول كثيراً ما نجد ناقداً لا يتخذ مكان الكاتب حسب ولكنه يتبنى العمل كما يشتهي ويطرد الكاتب من بيته ! ليكن قول مالكوم كاولي خاتمة مناسبة للكلام : انغمار بعض النقاد الممتازين في العمل النقدي وتدفق أفكارهم والنشاط الفائق لتخيلاتهم، يجعلهم بحاجة لمن يربّت على خدودهم ليذكرهم بوجود عالم خارجي وأن هذه الكتب تعود إليه.