بينما تجاوز العالم الغربي المسيحي مسألة التنوير، وهي أكبر قفزة فكرية وعلمية في حياة ذالك العالم، لم يزل العربي الإسلامي يتخبط في مجاهل التعتيم، رغم أن الغربيين خضعوا، أو أخضعوا، لسلطة الدين قروناً طويلة امتدت إلى نحو خمسة قرون، ليعيشوا تحت قوانين المنع والتكفير وكبت الحريات العامة، حتى بات اللاهوت أمراً من المحرمات المقدسة التي لا يجوز الاقتراب منها أو ملامستها بأي شكل من الأشكال، وهذا ما وضع الخاصة والعامة تحت طائلة القتل والسجن والنفي.
المجتمع الغربي، برمته، كان يعيش على وفق تعاليم اللاهوت المسيحي، بل ان علماءه ومفكريه وفلافسته، جزء من ذاك المجتمع، لم يتمتعوا بأية حصانة أو حماية، ولم يكن للضوء الأخضر في طريق السؤال المعرفي الشجاع أي وجود، فكل الطرق والأزقة، داخل العقل وخارجه آنذاك، كانت بمواجهة الضوء الأحمر: قف..ممنوع المرور.
التقديس، الإيمان الأعمى، الطاعة، الخضوع، التحريم، التكفير، وما يدخل فيها أو يخرج منها، كانت قلاعاً منيعة لا يجوز الدخول إليها أو الاقتراب منها.
لكن العصور الوسطى العربية/الإسلامية، بخلاف الغربية/المسيحية، كانت عصور ازدهار فكري وعلمي، منارتاه بغداد في المشرق وقرطبة في المغرب، وهذه مفارقة يؤكد عليها هاشم صالح إشارةً إلى المثقف الغربي الذي يعمم ظلامية العصور الوسطى على العالم كله "إن تطبيق هذه التسمية الشائنة <العصور الوسطى> على كل البشرية آنذاك يسيء كثيراً إلى العرب المسلمين لأن حضارتهم بلغت أوجها في تلك العصور". (*)
ومثلما مر الغرب بمراحل نكوص وصعود كذا هي الحال عندنا، عرباً ومسلمين، غير أن الجوهري هو ان فلاسفة التنوير الفكري والفلسفي الغربيين تجاوزوا عصورهم المظلمة بعد أن واجهوا المقدس المحرم بالسؤال الشجاع والمنتج فكرياً وفلسفياً حتى انفصل الدين عن السياسة وتُرك الناس لشأنهم، من يذهب إلى الكنيسة ليذهب ولمن يقاطعها فليقاطعها، فقامت الدولة العلمانية التي قادت مجتمعاتهم نحو أعلى مراحل التطور على الصعد كافة، وما زالت حركة الفكر والعلم والفن تبتكر الجديد والجديد على مدار الساعة، بينما لم تزل مجتمعاتنا العربية الإسلامية أسيرة التعتيم عبر ثقافة الخرافة والمعجزات والخوف وسلطة المقدس، بما فيها سلطة الأرضي نفسه، ولم يتحرر من هذه الثقافة حتى مفكرون ومثقفون يلهجون بالمفاهيم الحداثوية، وما بعدها، والتنويرية والعلمانية والديمقراطية والحرية، بينما تترسب في أعماقهم السحيقة بقايا تلك الثقافة وبذورها وأعشابها الضارة.
من الضروري، اليوم، فحص العلاقة بين الدين والسياسة، على ضوء أن الأول شأن شخصي، أوحتى جماعي، للفرد، أوالجماعة، أن يمارسوه، مع كل الاحترام والتقدير، بينما الثانية هي فن وعلم إدارة المجتمع بما يتماشى مع تطورات العصر الحديث، علمياً وفكرياً وثقافياً، حيث يتقاطع العلمي مع الديني ولا يلتقي معه بشأن معرفة الكون والحياة والمستقبل، ولكل منهما ميدان عمله وأحلامه وأوهامه.
على أن المعضلة، اليوم، وإن كان الدين أسّها الأكبر، فإن رجال الدين هم "الدولة العميقة" التي تأخذ الناس نحو ثقافة أهل الكهف التي لم يعرف أحد، حتى الله، عدد سني نومهم، وكم لبثوا..هذه الدولة التي تأسست وقامت وازدهرت بعد مقتل آخر الخلفاء الراشدين، والتي سنّت هي، لا سواها ما يسمى بـ "السنّة النبوية" كما يذهب الكثير من الباحثين والمؤرخين، لكي يستمروا في ممارسة سلطتهم غير الشرعية وحمايتها وتكريسها، بقرةً حلوباً، تدر عليهم أكبر الأرباح، منذ أبي هريرة حتى أبي بكر البغدادي مروراً بـ"مختار العصر" العراقي الحديث.
(*) هاشم صالح – "مدخل إلى التنوير الأوروبي" – دار الطليعة للطباعة والنشر ورابطة العقلانيين العرب، 2005.
بين التنوير والتعتيم
[post-views]
نشر في: 7 نوفمبر, 2016: 09:01 م