تعاني صحافتنا العراقية من ضعف واضح في تغطية الواقع الاقتصادي والمالي بشكل يرفع الغموض، ويبدّد قلق المواطن على محفظة نقوده، وخبز مائدته اليومي.
للأسف فإن صحافتنا، على الرغم من عراقتها ومكانتها، عجزت عن الخروج من دائرة الشأنين السياسي والثقافي، إلى مجالات أُخرى لاتقلّ أهميّة من هذين الحقلين، وشذّ عن ذلك الشأن الرياضي الذي مازال حقلاً منتعشاً ومنتجاً في إعلامنا.
وإذا كان لطبيعة الأنظمة السابقة، والقيود المشدَّدة التي فرضتها على حرّية الصحافة، وخضوع الصحفيين الى رقابة خانقة تمنع الاقتراب من "أسرار الدولة"، عذر إنساني ومهني في اكتفاء صحافتنا بالتركيز على المجالات الثقافية والمحلية وأحيانا الفنية. فإن كل تلك الظروف الثقيلة والمميتة أحياناً قد ارتفعت وتغيرت بشكل جذري بعد 2003.
لكنّ الانفجار الإعلامي والانفتاح الكبير الذي شهدته صحافتنا منذ 13 عاماً، لم يتمخّضا عن ولادة صحافة اقتصادية، أو جيل من الصحافيين الاقتصاديين المتخصصين. طبعاً لا أتحدث عن محلِّلين لتقلّبات البورصة، ولا خبراء في مضاربات سوق الطاقة، ولا حتى متنبئين بمصير البترول بعد عقد من الآن. فإعلامنا يفتقر الى صحافيين قادرين على التمييز بين قضايا بسيطة كالفرق بين العجز والتضخّم، والعلاقة بين السياسة المالية والسياسة الاقتصادية، وهي مفردات لها مساس يومي بحياتنا الاقتصادية والسياسية.
وتتجلّى خطورة هذا الفراغ الذي تعاني منه صحافتنا من خلال عجزها عن كشف مصير مئات مليارات الدولارات التي دخلت في جيوب دولتنا ثم خرجت بشكل غامض، ولم نجد لها أثراً في شوارعنا أو مدننا.
لقد تسبّبت هذه الثغرة في تبادل أدوار التضليل بين الصحفي والسياسي الذي يكتب أحدهما عن الأرقام، ويتحدّث الآخر عنها. فأصبح لدينا صحفي يتلقى المعطيات المالية والاقتصادية كما هي من السياسي، وفي المقابل صارت لدينا طبقة من الساسة تردّد ما يكتبه ذات الصحفي من دون تصحيح أو توضيح. بات الكل يردّد كميّات مرعبة من الأرقام بلا تدقيق، وبات المواطن يستمع لنوع جديد من أفلام الرعب التي تختلط فيها الحقائق مع المآرب الحزبية والسياسية.
بالأمس سنحت فرصة نادرة للتعرّف على عمل البنك المركزي، الذي بدا وكأنه ماكنة عملاقة لإنتاج الدنانير التي تشغل السوق المحلية، ونتسلّمها كمرتّبات في نهاية الشهر. رغم أنّ وظيفة البنك الحقيقية تختلف عما يقوم به حالياً.
فرغم ان البنك المركزي ملزم بحماية أسعار الدينار العراقي، والسيطرة على معدلات التضخم، إلّا أنّ اختلالات الاقتصاد العراقي حوّلته إلى أكبر آلة صرافة في البلاد، لشراء الدولار وإعادة بيعه عبر نافذة البيع التي وصفتها بأنها "ثقب أسود" في عمود سابق.
ومع أنّي لا أعتبر نفسي إلا متابعاً بسيطاً، فإن اللقاء مع طاقم قيادة البنك كان كفيلاً بتبديد بعض الغموض، أو توضيح ما كان واضحاً لديّ شخصياً عن مكانيزمات عمل هذه المؤسسة التي تسمّى "مصرف الدولة"، أو "بنك البنوك".
اكتشفنا لأول مرة كيف يساهم انعدام الصحافة المتخصصة، وقلّة الخبراء في الشأنين المالي والاقتصادي، في تشويه صورة البلاد في العالم. وكيف تبقى أبواب الفساد مشرعة لاستنزاف ثرواتنا بسبب الجهل، وغياب الرقابة العقلانية التي تمثلها الصحافة المتخصصة.
كما اكتشفنا أنّ "الثقب الأسود" سيعمّر طويلاً باعتراف المسؤولين، لجهة استشراء الفساد، وتفاقم سوء الإدارة التي تبدأ من لحظة إقرار الموازنة ولا تنتهي بوسطاء وسماسرة يتحايلون على القانون والضوابط.
للمفارقة فإن التفاؤل الذي تشعر به وأنت تطّلع لأول مرّة على الماكنات الحديثة لإصدار العملة، ونظام مراقبتها، وضمان تدفّقها إلى السوق، يتبدّد سريعاً وأنت تخرج من بوّابات المبنى الذي يتوسّط شارع الرشيد، عندما تجد نفسك عالقاً باكوام من القمامة والخراب، وازدحام الباعة والممتبضعين. وهو فساد من نوع آخر، يتحمّل مسؤوليّته رجال المرور، ودوائر أمانة العاصمة، ومؤسسات الدولة الأخرى.
من داخل ماكنة الدنانير
[post-views]
نشر في: 9 نوفمبر, 2016: 06:33 م