اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الزهور القاتلة

الزهور القاتلة

نشر في: 11 نوفمبر, 2016: 09:01 م

 

أتجول بخفة عاشق بين لوحات المعرض الذي يقام الآن في متحف فريسلاند شمال هولندا، للفنان الهولندي الذي عاش اغلب حياته في بريطانيا ألما تادما( ١٨٣٦-١٩١٢) أتابع التقنيات التي يعمل بها وأركز على التفاصيل التي يوزعها على قماشاته ويضعها بطريقة العارف والفضولي والمتمكن وصاحب الخيال الذي لا يُجاريه خيال آخر. كل ما انتبه الى تفاصيل معينة، تفاجئني تفاصيل أخرى بين ثناياها، اكثر دقة وأعمق رمزية. انه فنان يعتني بأشياء صغيرة ربما لا تلتفت اليها العين ولا تنتبه اليها الحواس عند رؤية المشهد، لهذا علينا ان نتسلل الى لوحاته رويداً رويداً حتى نتشبع بسحر هذه الأساطير الملونة التي تمنح أقمشة الرسم قيمة ومعنى وحضور مؤثر.
أُتابعُ العيون الساهمة وانتبه الى التفاتات الوجوه. انظر الى حركات الاصابع وارتجاف السيقان وحيوية الأقدام التي يرسمها، الأقدام التي أعادتني - وانا انظر اليها- الى تلك الأيام البعيدة من حياة الرسام، حين قرأت سيرة حياته، عندما كانت والدته في صباه تربط خيطاً طويلاً بأصابع قدمه وهو نائم في العليِّة، حيث يتدلى الخيط قرب سرير نومها وبمحاذاة يدها، لتسحبه في الصباح الباكر، فيستيقظ قبل بدء المدرسة بثلاث ساعات، ليمارس الرسم في البيت لمدة ساعتين قبل ذهابه الى دروسه. لكن هذا الاهتمام والرعاية الاستثنائية لموهبته أصابته بالإجهاد والمرض بسبب قلة النوم، وقد ساءت حالته كثيراً، حتى ان الطبيب أوضح ان أمر الصبي ميئوس منه، وهو ربما سيعيش على الأكثر بضعة سنوات اخرى فقط، وطلب من العائلة ان توفر له ما يسعده فيما تبقى له من سنوات، لهذا أرسلته أمه الى مدينة انتفيربن في بلجيكا ليدرس الرسم، عكس رغبة ابيه الذي كان يريده ان يصبح محامياً. لكن شاءت الاقدار ان يستمر الصبي تادما بحياته كما استمر بدراسة الرسم، وتطورت موهبته بشكل فاجأ الجميع حتى ان أمه وأخته قد انتقلتا فيما بعد للعيش معه في بلجيكا.
هكذا استعيد بعض من حياة هذا الفنان النادر وانا أتجول بين أعماله وأتنقل من صالة الى اخرى لأتوقف هذه المرة امام واحدة من أشهر أعماله وأكبرها حجماً، وهي لوحة (الزهور القاتلة). أتأمل تفاصيلها وما ترمز اليه، واتشبَّعُ بتقنيتها التي تشبه المعجزة. لوحة مستطيلة بشكل أفقي، تظهر فيها مجموعة من الشباب والنساء الجميلات، وهم يتلوون بخدر لذيذ تحت وطأة الزهور القاتلة التي تهبط عليهم من الاعلى وتغطي اجسادهم التي لا تظهر منها سوى حركات الايدي وتساؤلات الوجوه الغارقة في بحر وردي اللون، بينما يظهر القيصر جالساً في الأعلى، خلف طاولة مترفة مع بعض نسائه وحاشيته وهم يتطلعون الى موت ضيوف القيصر خنقاً بعطر الزهور. والحكاية التي حدثت في القرن الثاني الميلادي تقول بأن القيصر كان قد قتل ضيوفه بعطر زهور الفيولا، لكن الفنان تادما أبدل هنا الفيولا بالورود الوردية والبيضاء التي يحبها كثيراً.
رسم تادما هذه اللوحة بطلب من المهندس جون آيبرد سنة ١٨٨٨، وكان ثمنها أربعة آلاف جنيه إسترليني في ذلك الوقت - ما يعادل الآن مئة الف جنيه- وعرضت في نفس السنة في معرض الأكاديمية الملكية. وقد استغرق رسمها مدة أربعة أشهر. وكانت الزهور تُجلَب أسبوعياً طوال فترة الرسم من جنوب فرنسا، وذلك بطلب من السيد آيبرد، لينثرها تادما في مرسمه ثم يعكسها على قماشة الرسم، ليخرج لنا بهذه التحفة الفنية العظيمة. وبعد انتهائه من الرسم احتفظ تادما بالزهور المجففة في مرسمه  طول حياته المتبقية، لتكون ذكرى لهذه الأيام الخالدة من سيرته الفنية الباهرة. أشير هنا الى ان الصداقة قد تعمقت بين الرجلين، فبعد أربعة عشر عاماً من رسم اللوحة دعا المهندس آيبرد صديقه الفنان تادما لحضور مراسيم افتتاح سد أسوان الذي كان مشرفاً على إقامته في مصر.
 يتبع

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram