جمال جصانيمن الصعوبة بمكان العثور على من تساعده عدته المعرفية، على فك طلاسم مثل هذه المحطات، احداث اندثرت تحت كثبان المسخ والتزييف المتواصلة منذ اجيال، برمجة النسيان هذه شقت لها دروباً جديدة بعد (الفتح المبين). فالذاكرة المثقوبة والمذعورة لم تعد تمتلك مايكفي من الهمة والكرامة،
لتعيد الى الاروع منا حقوقهم المنتهكة. منذ تلك الجمعة السوداء في 8شباط من عام 1963 ومنذ ان مهد البيان سيء الصيت رقم (13) الطريق؛ لمشاريع المقابر الجماعية والهرولة على خطى حوافر دواب الاسلاف، رشحت الارهاصات الاولى لما سيعرف لاحقاً بـ (الحملات الايمانية). في الثامن من شباط انطلقت الرصاصات الاولى الى قلب جلال الاوقاتي قائد القوة الجوية، تلك الشخصية الوطنية الرائعة، والذي كان مصرعه بمثابة ساعة الصفر للمتآمرين وقطعان الحرس القومي للتسلل الى مركز البث والارسال في منطقة ابو غريب ووزارة الدفاع ومن ثم باقي المواقع الحكومية الحساسة والتي انهارت تباعاً، نتيجه حزمة من القرارات والسياسات البعيدة عن الحكمة التي اتبعها (الزعيم) ومن تجحفل بالاهازيج معه. بلاشك كانت المباغتة قد فعلت فعلها وشلت ماتبقى من قوى حاولت عبثاً الدفاع عن مشاريع احلامها النبيلة. لم يصغ (الزعيم) الى نصائح الاوفياء من مساعديه، وسار بملء ارادته الى حيث مقتله في وزارة الدفاع، التي وصلتها قوات المتآمرين بعد ساعة من وصوله. الجماهير المحتشدة عند اسوار الوزارة، طالبته بتوزيع السلاح لتقوم بواجبها في الدفاع عن الجمهورية الاولى، غير ان (الزعيم) اصر على يبقيها منزوعة السلاح بمواجهة اشرس حملة ارهاب ضد المجتمع العراقي وقواه الحية، تحت ذريعة (عدم رغبته بنشوب حرب اهلية) بمثل تلك القرارات المترددة شرعت الابواب امام (المنحرفون) للتنكيل بأجمل واروع ما أنجب العراق آنذاك. وهكذا لم تجد (الجمهورية الاولى) من يدافع عنها سوى حفنة قليلة من الجنود والضباط وجموع متناثرة من سكان الازقة الشعبية الذين تصدوا لقطعان الحرس القومي بما توفر لهم من اسلحة بدائية. . لقد انتظر (الزعيم) عبثاً وصول الامدادات والقوات المساندة له، وبعد ان جف حبر الوهم، وازدادت قذائف (المنحرفون) جرأة في النيل منه ورفاقه المدافعين عن حلم الجمهورية الاولى، تلقف وهماً آخر وقرر الاستسلام. لم يكن يدرك ان لزميله السابق في الثكنات (عبد السلام عارف) تأويل آخر لذلك النص (عفا الله عما سلف) ووصية شاردة من كثبان ذلك اليباب هي: (الغدر عند المقدرة). وعن تلك المحنة والهزيمة السياسية والحضارية قال (سلام عادل) قبل اسابيع من اعتقاله واستشهاده البطولي: (لقد خسرنا المعركة عام 1959 وليس الآن) فلم يمر عام على الثورة حتى هيمنت السياسات المترددة والذيلية على سدة القرار في الحركة الوطنية والديمقراطية، وكشفت قيعان المجتمع الراكدة عن مكنوناتها وملامح مخلوقاتها المحتقنة بكم هائل من الموروثات المتنافرة. آنذاك اكتسحت الشعارات الديماغوجية (البيارغ) والحناجر، ولم يعد امام الهمسات الخجولة للحكمة سوى الاعتكاف بعيداً عن عجاج تلك الاندفاعات الجامحة. لم ينتبه (الزعيم) الذي ترنح كثيراً على ايقاعات انشودة (ماكو زعيم الا كريم) الى ذلك الخطر الذي انتبه اليه مبكراً حفيد (زرقاء اليمامة) الجواهري الكبير. تلك الافاعي التي انتزعت زمام المبادرة، بعد ان سبرت غور الاهازيج الخاوية. في الثامن من شباط عام 1963 كشف سكان ومستوطني ارض (الميزوبوتاميا) عن صبغتهم السياسية ومنظومتهم القيمية بشكل لم يشهده تاريخهم من قبل، في تلك الايام الكالحة هرول العراق عارياً، ولايعوزنا اليوم الا ذلك الطفل وصرخته غير الملوثة. الجيل الأول من (الذباحين) أطلق على أكبر جرائم العصر (والتي تبرأ منها لاحقاً عرابها جمال عبد الناصر) اسم (عروس الثورات). الغزوة التي نحرت ارهاصات حلم جواد سليم الشامخ وسط بغداد،وعلى انقاض ذلك الحلم اليتيم شيدوا أكبر حقول لتنمية الكوابيس. وبالرغم من مرورنصف قرن من الخيبات والتدهور القيمي والمادي بعد سلسلة الحروب الداخلية والخارجية، وسبع سنوات على سقوط (الدولة-العوجة) مازالت ستائر الصمت تحاصر ذلك (الحدث-الفاجعة) الذي اكتنز ملامح العراق قبل طوفان الزيف وسطوة (جمهورية الخوف) ومازالت قيم الجمهورية الاولى تزداد اغتراباً على سطح تضاريس الاولويات الخائبة للجيل (الجديد-القديم) من سلالات اولي الامر. ولكن يبقى امر امتلاك الوعي والمعرفة اللازمة من اجل النهوض مجدداً بعيداً عن حضائر الغيبوبة، اقرب الى المحال من دون الموقف الموضوعي والشجاع من تلك (الحقيقة الغائبة) خلف نقاب (العروس).
البيـــان رقـــم (13) وفقـــه المقــابــر الجمــاعـيـة
نشر في: 7 فبراير, 2010: 05:17 م