نحن الآن في 604-673، وهو عمر الصوفي الكبير جلال الدين الملقب بـالرومي لأنه عاش في قونية التركية عاصمة سلاجقة الروم، وقبله في 583-645 وهو عمر مرشده شمس الدين التبريزي الذي ربطته بجلال قصة يطول الكلام فيها. جلال الدين كان فقيهاً حنفياً ذا شأن في
نحن الآن في 604-673، وهو عمر الصوفي الكبير جلال الدين الملقب بـالرومي لأنه عاش في قونية التركية عاصمة سلاجقة الروم، وقبله في 583-645 وهو عمر مرشده شمس الدين التبريزي الذي ربطته بجلال قصة يطول الكلام فيها.
جلال الدين كان فقيهاً حنفياً ذا شأن في قونية وكان يدرّس العلوم الإسلامية: علوم القرآن والحديث والمباحث المتصلة بهما، ولد في بلخ/خراسان ووالده، الذي هو أصلاً من هناك، كان يسمى "سلطان العلماء"، فهو فقيه من سلالة فقهاء وشيوخ، حتى أوصل بعضهم نسبه إلى أبي بكر الصديق. ومعروف انه كان عالماً كبيراً وخبيراً وخطيباً وعارفاً حديث التفكير. ولقبه سلطان العلماء يدل على كبر شأنه.
خلاصة كلامنا أن جلال الصوفي عالم يدرس علوم القرآن وابن عالم وعارف كبير، فليس هو طارئاً ولا جاهلاً ولا دعياً وكذا مرشده شمس التبريزي عالم دين كبير صاحب رأي .
مذهب شمس التبريزي يختلف عن مذهب جلال الدين، ذلك حنفي وهذا شافعي، وهو نفسه يصرح بأنه كان يدعى لدراسة "التنبيه في فروع الشافعية"، لكن شمساً يعلن أيضاً أنه لم يكن لديه تعصب لمذهب الإمام الشافعي وكان إذا استحسن أمراً في غير مذهبه ارتضاه وليس هو من أصحاب اللجاج والجدل ..
معنى هذا : سماحة فكرية ورغبة في الصواب حيث يكون، وهذه مسألة مهمة تعنينا فيما سنقوله من بَعْد.
أيضاً، لم يكن شمس معنياً بالجاه ولا بسلطان الدنيا، هو "له قدم على الأفلاك السبعة ولا يشترى سلطان خلق العالم بشروى نقير.."، ونظرة شمس إلى مسائل عصره في مجال الدين والأخلاق والتصوف، نظرة قاسية وحادة وغير مبالية، ولم يكن يقيم وزناً للكثيرين من علماء عصره، بينما كان يثني على أشخاص مغمورين مع ما فيهم من خروج على المعايير الأخلاقية والدينية لعصره وكان يأنس بهم وقوله معروف : "أحب الكافرين من جهة أنهم لا يدّعون المحبة (يعني محبة الله) ".
إذن هو عالم دين، مرشد، متمرد على التفكير الديني السائد وبعض الأرث، بما فيه الصوفي وغير راض، بل رافض بقسوة لما في زمنه من الأدعياء والتقليديين، لكنه كان يمجد الرازي والبسطامي ويستشهد بهما.
فمع احترامنا لكل ما ورد من تفاسير ومن معالجات للعلاقة الحميمية، العشقية، بين شيخين عالميين من علماء الصوفية، وبعيداً عما قيل، فيما جاء في الغزليات والمثنويات، نقف أمام قول جلال الدين مفسرا مجيء شمس إلى قونيه، وعلى لسان شمس :
"إن هدفي الأساس هو معرفة الإنسان وتعرّف حالات القلب وإنْ قيل لي أن أحرر عبداً لطيفاً من القيل والقال يعيش بين أفراد تتحكم به الاضطرابات والقلاقل وضروب القلق والدس والخصومات".
إذن نحن في مجتمع متردٍّ وبحاجة إلى من يسهم في هدايته وإصلاحه وإنقاذ الإنسان فيه، فقونية التركية، عاصمة سلاجقة الروم وريثة الفكر اليوناني وزاخرة بالملل والنحل وأدعياء الدين وفي مجتمع مضطرب مختصم وفيه كذب كثير وفساد. تقول الكتب : أن شمساً يقول :
"جاءتني إشارة أن أتوجه لبلاد الروم فاستجبت". وهذه نقطة ثانية تعنينا.
هناك إذن رسالة عليه أن يؤديها، رسالة إصلاحية لخلُق و لدينٍ ومعتقدات، يقول جلال الدين :
"هداني شمس إلى حياة رمزية وعظيمة في العرفان، وفي عقيدته أن التصوف وأصله هو : أصالة الباطن".
حاصلُ ما قرأناه يعني أن شمس التبريزي، العالم الفقيه المتمرد والرافض للكثيرين من رجالات الدين في عصره، أراد أن يوقف الجهل واستغلال الدين وتوظيف الآيات القرآنية والحديث لما يشتهون، وأنه أراد تغيير مجتمع قونية المضطرب المختصم وحيث الفكر اليوناني وحيث الكنيسة والمسجد والعقائد المحتربة وحيث المغول يكتسحون المدن ومجتمع قونية بتلك الحال.
كيف يمكن أن يحدث هذا التغيير ؟
أفاد من جوهر ثقافته الدينية الصوفية ووجد فيما ورث سبيلاً قويماً للإصلاح ولإيقاف التقاطعات والكراهات والاختلاف.
فارتأى بديلاً عن الفساد والكراهات، ترك الدنيا وعيوبها ودعوة الناس للخلاص الروحي والأخلاقي بمضادات الشر والعيوب وهي الموسيقى والإنشاد والرقص والمحبة. رأى في ذلك عمران الروح وسْطَ خراب الدنيا. هذا هو الطريق الذي تراءى له لإبعاد الناس عن الزيف والرياء واشتباكات المطامع وفساد العقائد.
جلال الدين الفقيه المتصوف وجد في صاحب الدعوة محرراً ومخلصاً :
"كان شمس عالماً محسناً وعارفاً بارزاً جذب إليه جلال الدين وسحره وكان شمس في السيرة والسلوك جديراً بالثناء ..".
"جاءت دولة المعشق"! قال جلال الدين الرومي، وهي الدولة البديل التي تصافي بين الناس وبين الأديان والمذاهب وتشيع الحب بين خلق الله جميعاً ولا تفرق بين هذا وذاك وتلك! توحدهم المحبة، توحد هذا المجتمع المختلف والذي تشيع فيه الدسائس والكراهات والمغول على الأبواب! فقال بفلسفته :
"ادخل باطن ذاتك".
هي دعوة عظيمة في زمنها لأنْ ينتبه الإنسانُ لنفسه، لروحه وذاته ليلتقي بسر الكون وليلتقي بالله أو بالحق ويؤمن بالمحبة..
هذه، في رأيي ومن جملة ما قرأت، هي الخطوط الأساسية لهيكل فلسفته. أما حشوه بالغزليات وأساطير الحب وحقائق ومفردات العلاقات الشخصية...، فذلك كله مما تُحشى به كل حركة أو ثورة إصلاحية وما تتطلبه من أساليب تعبير مواتية آنذاك، مضافاً إليها ما يصنعه ويبتدعه الخيال . المهم بالنسبة لنا هو العالم الجديد الذي اكتشفه والذي رآه شمس بديلاً واجتذب جلال فصار جلال الدين يدعوا اليه:
"ما أجملك من شمس لا نهاية لها .." يقول الرومي.
ليس غريباً بعد هذا أن تتحدث العالمة الألمانية آنا ميري شيمل عن "الشمس" في أشعار جلال الدين فتصفها بـ"الشمس المنتصرة" وهو عنوان لكتاب لها، تقول فيه:
"سيكون العشق، المُظْهِرُ للشمس، مبنياً على عشق القِيَمَ التي لا تفنى..".
وهذا تماماً ما أردت الوصول إليه وأنا استعرض كتاب "عطا الله تدين" المكتوب بالفارسية والمترجم إلى العربية، عن شمس التبريزي. فأردت أن أبعد الهيامات والتهاويل وأفرز الخطوط الأساسية للظاهرة، فمن غير المعقول أن نرتضي اليوم ما قيل لنا عنه بلا إعادة نظر ونحن نعيش عصر العلوم ونعرف كيف تنشأ وتشيع الأفكار..
أود التأكيد ثانيةً على بعض خصائص هذا الرجل الظاهرة لنبعد الشبهات: فهو الصوفي المؤمن والسالك المخلص يشيع الحب بين المتشوقين للعرفان والسالكين لوادي الطريقة مثلما يشيع هذا الحب بين الناس على مختلف أديانهم ومذاهبهم واجناسهم. ويقول بوجوب إثبات الله لا بالعقل ولكن بالقلب وأن الحكمة الصوفية حكمة ذوقية. كما يعتقد بأن الإنسان مبدأ وأصل والأمل النهائي للإنسان هو أن يرجع إلى أصله. والواصل في العرف الصوفي شخص تحرر من نفسه واتصل بالحق.
قونية عاصمة سلاجقة الروم وفيها المسيحية حاضرة . إذاً مبدأ المحبة يتساوق والفكر المسيحي حيث المحبة مبدأ اول فإذا أشاعه بين المسلمين يكون قد ابعد التنافر في ذلك المجتمع واشاع بينهم المحبة. ومعروف ان مهمة الرسل هي ايصال الناس الى كمالهم في الازل ولن يتم هذا قبل صلاحهم في الدنيا.
إذاً في غيبيات شمس وجلال الدين ادراك واقعي. شمس يقول: "ليس في الدنيا شر مطلق ولكن شر نسبي فما هو شر لهذا خير لذاك، فتعال مع الحق والأبدية ...!"
أنا لا أريد أن أضيق من أفق المولوية وأسحبها من عوالمها الروحانية والعلوية ولكنها محاولة لأجعل لها منطلقاً موضوعياً يمكن مناقشته.










