صدر مؤخرا كتاب عن سيرة حياة السير مارك سايكس احد قطبي اتفاقية سايكس بيكو المشهورة عام 1916، والتي كانت اتفاقا وتفاهمًا سريًا بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق ال
صدر مؤخرا كتاب عن سيرة حياة السير مارك سايكس احد قطبي اتفاقية سايكس بيكو المشهورة عام 1916، والتي كانت اتفاقا وتفاهمًا سريًا بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الدولة العثمانية، المسيطرة على هذه المنطقة، في الحرب العالمية الأولى.
وتم الوصول إلى هذه الاتفاقية بين تشرين الثاني من عام 1915 وايار من عام 1916 بمفاوضات سرية بين الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس، وكانت على صورة تبادل وثائق تفاهم بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية آنذاك. ولقد تم الكشف عن الاتفاق بعد حدوث ثورة اكتوبر في روسيا عام 1917، مما أثار الشعوب التي تمسها الاتفاقية وأحرج فرنسا وبريطانيا وكانت ردة الفعل الشعبية-الرسمية العربية المباشرة قد ظهرت في مراسلات حسين مكماهون.
الكتاب بعنوان (الرجل الذي رسم حدود الشرق الأوسط) وهو محاولة من قبل المؤلف كريستوفر سايكس وهو حفيد السير مارك سايكس لتغيير "الأفكار المسبقة" عن جده ،ذلك الرجل الذي يرتبط اسمه بالغطرسة الاستعمارية والجهل الأرستقراطي ولكن هل استطاع انقاذه ؟وهو الذي كان واحدا من ا كثر الاشخاص الذين تلطخت سمعتهم في الشرق الأوسط؟
كان مارك سايكس يمثل انكلترا في فريق المفاوضات الأنجلو فرنسي الذي كان يجري نقاشات حول الطريقة التي ستقتسم فيها حكومتا انكلترا وفرنسا منطقة الشرق الأوسط بعد هزيمة الجيوش العثمانية. وكانت نتيجة تلك المفاوضات، عقد اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، التي رسمت الحدود في منطقة الشرق الأوسط وانشأت "مناطق النفوذ" البريطانية والفرنسية. تعرض هذا الاتفاق السري، الذي وضعت بداياته في منتصف الحرب العالمية الأولى وبموافقة روسية، الى الكثير من الانتقادات لأنه تجاهل مصالح شعوب المنطقة وكان يتناقض مع الوعود التي قطعت للقادة المحليين.فضلا عن أنه كان يتعارض مع وعود الحكم الذاتي التي اعطيت لقادة الثورة العربية: وعندما سمع توماس إدوارد لورنس (لورنس العرب) وهو الضابط البريطاني الذي اشتهر بدوره في مساعدة القوات العربية خلال الثورة العربية عام 1916 ضد الدولة العثمانية،بالاتفاق اعترف قائلا "ان وعودنا لهم كانت كاذبة".وكانت ترتيبات مرحلة ما بعد الحرب التي سعى الاتفاق إلى فرضها تتقاطع مع الحدود القبلية والدينية على حد سواء.
للوهلة الأولى،يبدو السير مارك سايكس رجل دولة مثاليا .فقد تمتع بامتيازات مفرطة، واصبح في قلب المؤسسة الحاكمة، وعين شخصيا من قبل اللورد كتشنر،و كان نشطا في الوقت الذي كانت بلاده لا تزال تحكم نصف العالم. لكن شيئا واحدا في هذا الكتاب تم عمله بشكل جيد جدا وهو الاعتماد على أوراق سايكس الخاصة لتقديم صورة أكثر تعقيدا واقناعا لشخصية الرجل . الابن الوحيد لصاحب الأراضي الشاسعة في يوركشاير والثري للغاية، تربى سايكس في اسرة تملك اراضي شاسعة، مع العديد من الموظفين والمعلمين والخيول وكلاب الصيد والحدائق الغناء، ولكن العلاقة بين والديه لم تكن جيدة.وقد دفعت المشاكل الزوجية والدته ذات المشاعر الملتهبة لاتخاذ قرار بالذهاب إلى لندن، وهناك بدأ ولعه بلعب القمار وتناول الكحول. سنوات دراسته في كامبريدج كانت سلسلة من الدروس الضائعة والحفلات الماجنة. وفي أول ايامه في الجامعة أشار احد اساتذته إلى أنه "مهمل لتعليمه"، وقبل أن يغادر الجامعة اشار استاذ آخر معلقا أنه غير قادر على ان يكيف نفسه على الاشياء التي لا تثير رغباته. لكنه اكتسب سمعة بأنه شخص يعرف الكثير عن العالم، و سافر مرات كثيرة الى منطقة الشرق الأوسط، ويمكن أن يروي حكايات جميلة عنها. بعد أن خدم في حرب البوير، أمضى السنوات بين عودته، وكان يبلغ من العمر 23 عاما، واندلاع الحرب العالمية الأولى في نشاط مكثف. فقد ألف عدة كتب، عن تفاصيل رحلاته الى بلدان الشرق التي كانت تحكمها الامبراطورية العثمانية، وكانت كتبه تحوي رسومات ساخره مستمدة من تجاربه العسكرية. وساعده نفوذ عائلته على ان يتعين في السلك الدبلوماسي في أيرلندا والقسطنطينية. وانتخب عضوا في البرلمان، وعندما اندلعت الحرب، كان سايكس قائد كتيبة من جنود الاحتياط، ولكن بدلا من أن يخدم في فرنسا مع رجاله جذب انتباه تشرشل وكيتشنراليه فتم تعيينه في نيسان 1915، في اللجنة البريطانية التي كانت تنظر في العواقب المحتملة لسقوط الإمبراطورية العثمانية. وقد وصفه لورنس العرب، الذي التقاه في الشرق الأوسط، بأنه "داعية واسع الخيال لحركات عالمية غير مقنعة"، وهو رجل يحمل "مجموعة من الأحكام المسبقة، والحدس، ونصف متعلم"، كان "يلتقط جانبا من الحقيقة، دون مراعاة لظروفه، ويقوم بتضخيمه ، ويطوره ويجعله نموذجا ".كان المفوض المدني للبصرة يعتقد ان سايكس "عبقري في صنع السعادة ولكن تعميماته لم تكن دقيقة دائما ". مثل هذه الاراء لم يتضمنها هذا الكتاب. وبعد عام من الاجتماع الاول للجنة الحكومية ، أرسل سايكس لإجراء مفاوضات مع الفرنسيين، وعندها تم اطلاق اسمه على ذلك الاتفاق الكارثي.
في عام 1918، قال الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون أن العرب يجب أن يمنحوا "الفرصة كاملة لان يحكموا انفسهم " و حتى السير سايكس كان يقر بوجوب تغيير صياغة الاتفاق. في يوم انتهاء الحرب، وصفه الجنرال اللنبي، الذي كان قائد قوات التحالف في منطقة الشرق الأوسط، بأنه "زميل جيد، ولكنه مختل الشعور ، وان اتفاقية سايكس بيكو يجب ان تمزق بطريقة أو بأخرى". توفي سايكس بعد ثلاثة أشهر في أحد فنادق باريس، وكان يبلغ من العمر حينها 39 عاما، .وقد كانت المأساة الكبيرة في حياته، كما يوحي هذا الكتاب، انه لو عاش لفترة أطول، لكان قد خاض معارك ضد الاتفاقية التي صاغها بنفسه.
قدم مؤلف الكتاب جده السير سايكس في صورة اكثر وضوحا، انسانا دمرته خلافات والديه ، كثير الحماس، غارق في حب زوجته، وابا مسليا في المنزل، ومراقبا ممتعا للناس الذين يعيشون من حوله في هذا العالم –والكتاب يتضمن العديد من رسوماته التخطيطية. ، وعند نهاية الكتاب يبدو العنوان مبررا نوعا ما ، فالسير مارك سايكس لم يقم بإنشاء الشرق الأوسط المعاصر، لكنه لعب دورا كبيرا، ومشوشا احيانا في خلق الظروف التي انتجت كل ذلك الظلم وسببت كل تلك الصراعات. وقبيل وفاته، اشار الى ان رؤيته لعالم ما بعد الحرب هو ان يكون عالما خاليا من الدبلوماسية السرية، ولكن يحقق "العدالة ويعوض الاضرار التي تلحق بالشعوب ويوفرالأمن لها". وهذه هي الأشياء التي يكافح الناس في الشرق الأوسط من اجلها منذ ان رسم السير سايكس الحدود لدول ذلك الجزء من العالم.
عن الغارديان