غالباً ما أرى ان الموضوع او المضمون في الفن التشكيلي لا يحمل أهمية، بقدر أهمية الطريقة التي يتناول من خلالها الفنان هذا الموضوع، والزاوية التي يَنظرُ من خلالها الى ما يريد رسمه، ثم طريقة المعالجة التي تحول الموضوع الى شكل مؤثر بصرياً. وبطبيعة الحال ينطبق هذا على كل ما تقع عليه عين الفنان. ومن أكثر الموضوعات التي رسمها الفنانون، هي الموضوعات الرومانسية او العاطفية التي يكون محورها العشاق واللحظات الخاصة بين الرجل والمرأة. فهذا الموضوع تناوله آلاف الفنانين على مرَّ العصور، وكل فنان تناوله بطريقة مختلفة وخاصة، فمنهم من أشار اليه بطريقة بسيطة وغير مؤثرة فطواه غبار النسيان. وبعضهم الآخر فتح الباب لمناخات مدهشة وجمال أخّاذ ومعالجات استثنائية، فَأَلهَمَ الكثيرين وأثر في تاريخ الفن. والى النوع الثاني ينتمي الفنان ألما تادما الذي يقام له الآن معرض كبير في متحف فريسلاند، شمال هولندا.
هذا الساحر الذي حَوَّلَ اللون الى ضوء وجَعَلَ الشخصيات ملائكة والخطوط أنغاماً، اشعر وأنا انظر الى أعماله بأنَّ عطر العشاق يتناثر على قماشات الرسم ثم يسيح ويندلق على ارضية قاعات العرض. أتجول بين عشاقه ونسائه الجميلات والتفاصيل التعجيزية التي ابتكرتها فرشاته الناعمة وخياله المتوقد، فأشعر بأني أدخل في اللوحات وأستنشق هواء البحر الذي أُحِسُّ برذاذه يتطاير فوق وجهي، اتطلع الى البنايات التي تشبه بنايات الرومان وكذلك التماثيل التي وزعها في تكوينات لوحاته هنا وهناك، ثم الريليفات البارزة التي تظهر على سطوح الجدران، والملابس التي ألبسها لشخصياته بخيال غير مسبوق ورؤية تضعنا في مناخ مسرحي يهز البصر، وهذا ما جعل أعماله تلهم الكثير من مخرجي السينما الذين صنعوا للممثلين ملابس من وحي لوحاته وحوَّلوا تفاصيل اغلب أعماله الى ديكورات ضمن مشاهد سينمائية لأفلام تاريخية مهمة.
أمضي داخل المعرض وأسبح بين الزخارف التي رسمها والنساء المسترخيات على أرائك المرمر في فضاءات مفتوحة حيث لا هواء إلّا هواء البحر ولا لغة إلّا لغة العشاق والمحبين الذين تنعكس ملامحهم فوق احواض السباحة الرخامية البيضاء. هنا داخل هذا المعرض عرفت لماذا يسميه بعض مؤرخي الفن بملك المرمر، وفي ذلك إشارة واضحة لمناخات وتكوينات لوحاته التي امتلأت بهذا النوع من الحجر في الخلفيات وأماكن الجلوس والأرضيات والمسابح والسلالم والتماثيل البارزة.
أتوقف امام اللوحة التي رسمها لأخته وهي تقرِّبُ وجهها من مزهرية مليئة بالزهور، فأشمُّ معها تفاصيل المكان ودفء الغرفة الذي يعكسه اللون البني ودرجاته المتفاوتة. امضي في اجواء المعرض لتفاجئني لوحته الجميلة (لا تقل لي أكثر) حيث تظهر فتاة وشاب يجلسان على أريكة طويلة من المرمر، هو يُقَبِّلُ يدها بنعومة، وهي تدير وجهها وتُقَرِّبُ قدميها من بعضهما خجلاً، بينما زرقة البحر تغلف المكان وتحيط بهما لتنعكس على أرضية المرمر. تقابلها تماماً لوحة اخرى تحمل الكثير من العذوبة والرومانسية، وهي لوحة (النظرة المواتية) والتي استعملها المتحف كملصق بارتفاع اكثر من عشرة أمتار كدعاية للمعرض، والتي تظهر فيها ثلاث فتيات يقِفنَ في مكان شاهق يشبه شرفة قَصر وهن يتطلعن من الاعلى الى شاطئ البحر، حيث تقترب سفينة بعشرات المجاديف وهي تحمل لهن عشاقاً أو أخباراً سارة.
لوحات العشاق هذه، بضوئها الأزرق الشبيه بلون البحر هي المرحلة الأخيرة في حياة الرسام ألما تادما، والذي رسم اغلبها بحجوم صغيرة مقارنة بأعماله الأخرى وبشكل مستطيل أفقي، تماشياً مع امتداد البحر والأرائك الحجرية المنبسطة علي عرض اللوحات. في النهاية اقول بأن تادما ينتمي تاريخياً لما يسمي بـ (ما قبل الروفائيلية) والتي ظهرت في بريطانيا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لكن هذا الفنان العبقري استطاع ان يكون (قبل) كل فناني جيله، من حيث القيمة الفنية والتقنيات والخيال، وكذلك من حيث قوة تكويناته وبراعته في الإمساك بالتفاصيل.
نساء مسترخيات على أرائك مرمر
[post-views]
نشر في: 25 نوفمبر, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...