ربما يشعر القارئ بأن ذكر الزهاوي الآن وفي زمن "الحداثات" ، وبعد كل هذه التحولات في مفهوم الشعر وتقدم الآداب والفنون..، يبدو ذكراً ليس على درجة من الاهمية اليوم. ونحن مع القائل بهذا ولكننا نتحدث عن أهمية الزهاوي في زمنه وفي تاريخ الأدب العراقي وفي حال
ربما يشعر القارئ بأن ذكر الزهاوي الآن وفي زمن "الحداثات" ، وبعد كل هذه التحولات في مفهوم الشعر وتقدم الآداب والفنون..، يبدو ذكراً ليس على درجة من الاهمية اليوم. ونحن مع القائل بهذا ولكننا نتحدث عن أهمية الزهاوي في زمنه وفي تاريخ الأدب العراقي وفي حال الشعر العراقي والعربي في تلك المرحلة من تاريخ أدبنا.
لا أريد تكرار كلام التقليديين بأنه دعا الى السفور والى حرية المرأة ووقف ضد تعدد الزوجات وكتب في الفلسفة والشعر القصصي وكان له رأي في الجاذبية ما تذكره عنه الكتب المدرسية حقائق وقد فعل ذلك.
انا اريد ان يقوّم الزهاوي تقويماً ثقافياً، فهو شاعر يجيد الفارسية ويكتب فيها شعراً وهو درّس في الاستانة استاذاً للفلسفة والآداب العربية وفي بغداد درَّس الحقوق! وكان مفتي بغداد.. واللغة التركية لغة اجنبية ثانية له ويكتب بالعربية وهو شاعر كردي نشأ وترعرع في السليمانية. إذن هو يجيد اربع لغات شرقية.
ويذكر أنه قرأ حامد أكبر شعراء تركيا آنذاك وقد كان شاعراً فاعلاً ومؤثراً. وان الزهاوي كان مطلعاً على جوانب في الفلسفة مهما كانت درجة اطلاعه.
وان حضور الزهاوي كان عقب اتصال الشرق بالغرب في أواخر القرن الماضي وظهور الجمعيات والمنظمات التي أسسها العرب تطالب بالاصلاح والعدالة الاجتماعية. وانه، وهذا مهم، "تبنى هذه الافكار واتخذ منها منهاج عمل كما انه تصدّى للتفاوت الطبقي ولقبول الناس بواقعهم، وحرّض الناس على رفض هذا الواقع.
هذه كلها مواقف تستحق ان تذكر باحترام.
ما ذكرته حتى الآن ليس جديداً فقد ذكرته الكتب والمقالات التي كتبت عنه. أنا أردت التأكيد على اهميتها المرحلية وانها لم تكن اموراً اعتيادية. هي كبيرة الاهمية لحركة النهوض الاجتماعي ودوره عظيم التميّز فيها.
مع ذلك، نحن نتحدث عن الشعر والشعر فناً، فلا بد من أهمية فنية. وهنا نذكر ان الزهاوي كان داعية للوحدة العضوية للقصيدة. وهو أيضاً من دعاة التحرر من القافية والمؤكدين على انها تكون مملة إذا طالت القصيدة. ومعروف أن هذه دعوة بدأت قبل الزهاوي. ابتدأت في القرن التاسع عشر في الأدب التركي. ولكنها اتضحت عندنا، اعني في بلاد العرب، عقب حملة حافظ ابراهيم وخليل مطران على الوزن والقافية. جذور هذه الدعوة قديمة تعود الى رزق الله حسون الذي ترجم "سفر أيوب" شعراً مرسلاً ودعا الى التخلص من القافية في كتابه "شعر الشعر" سنة 1870 ولاتعود، كما يُعتَقد الى قصيدة عبد الرحمن شكري "كلمات العواطف" ..
المهم ان أستاذنا طه حسين أفرد بالتميز خليل مطران والعقاد في مصر والزهاوي والرصافي في العراق. معهم بدأ الفكر في الشعر وحضر العقل. خلاصة هذا الكلام اننا بإزاء احد اربعة شعراء مهمين في بلاد العرب بدأوا الاختلاف او التجديد، الزهاوي واحد بارز منهم.
هذه الاهمية لا نراها اليوم بوضوح بسبب تجاوزنا لها ولمرحلتها. لكن اهميتها تظل عظيمة في زمنها وذات فعل وتأثير. لقد بذروا بذور التحرر والتقدم الاجتماعي والحس الطبقي وقضايا المرأة. وليس امراً عادياً ان يمتلك شاعر اربع لغات شرقية ويتبنى سطوعات العقل الجديد في بلد متخلف مغلق تحكمه الخرافات، شعب يغتني من خداعه الكذَبه. هو شاعر مجيد يستحق الثناء والاحتفاء بذكراه وطنياً. لماذا لا نحتفل بالزهاوي؟ هو شاعر بدأ التجديد
وهو شاعر وطني .
هو لم يمدح اياً من أقطاب العمالة في الشرق الاوسط ولا باع واشترى بشعره ولم يتنازل ولم يشكُ عوزاً لصاحب مال او جاه.
هو زهد بمنصب شاعر الملك فيصل الاول وبراتب جيد. كان عفّاً ومات عفا. حاول خصومه، المرضى بالانحياز، ان يدينوه بأنه مدح الانجليز. هي قصيدة واحدة رحب بها بالمندوب البريطاني فرحاً بالخلاص من العثمانيين لا حباً به. الأمة العربية في ثورة الشريف حسين كانوا مع الانكليز ضد العثمانيين، فأين الخطأ وما هو موضع الادانة؟
كان منتظَرا ان نفهمه اكثر من زمنه وسنكون مقصرين و"منحازين" بشكل معيب ومؤسف إذا استمررنا على اهمال الزهاوي الذي كان واحدا من اربعة شعراء مهمين في كل بلاد العرب ورأي طه حسين ليس مثل رأي سواه. لابد من وفاء للعاملين المخلصين في الحقول كلها ومنها الحقل الثقافي والشعر والفنون. وهنا أدعو مخلصاً لتاريخ الادب:
لأن يكون للزهاوي نصب بارز في مكان مناسب،
وأن يحتفى به في حفل رسمي في ذكراه، لا أن نتغاضى عنه أو ننساه. كفى انحيازات رخيصة معيبة فهو وطننا وهم ابناء شعبنا ومفاخرنا الوطنية
هي فرصة طيبة لمن همُّه الوطن وسلامه ووحدته لأن يُحَدّد يومٌ للاحتفاء بالزهاوي ويوم آخر للاحتفاء بالرصافي. وسيكون في عملنا هذا لطف ورضا فهو عمل كريم ووطني ان نحتفل بشاعرين كرديين في هذا العراق العزيز وكل منهما فطحل في علوم اللغة وكلٌ منهما مفكر صاحب رأي !
أيها السادة، هي فرصة لمحبة الوطن ومحبة الوطن وبناؤه يكونان بارضاء كل ابناء شعبه والحفاظ على معالمه الوطنية. وهذه ستكون خطوة واضحة في الطريق. ثم أن الزهاوي شاعر متفرد في موضوعاته وله اجتهاداته وافكاره، ولا أظنه في هذا يشبه احداً من جيله. أيضاً هو شاعر ذاتي من نمط خاص ويفخر بأنه ناءٍ عن سواه ومختلف. وهما ميزتا شاعر كبير في زمن لا هوية واضحة لهُ وفي مجتمعات صفة التخلف فيها أكثر وضوحاً من صفة التقدم. ها أنا أسمع صوت الزهاوي اللغوي والفيلسوف والمتصوف والمتفرد الذي نشيد به ونتذكره اليوم:
ومازلت في جوٍّ من الفكر طائراً
ومن عادتي الاَ أطير مع السرب
بقيَ عليَّ أن اشيد بجهد الاستاذ المرحوم عبد الحميد الرشودي وكتابه بمجلدين "الزهاوي دراسات ونصوص" بتقديم الاستاذ عبد المنعم الأعسم والذي كان مصدراً ومحرضاً لكتابة هذا المقال أو هذه الدعوة.