مع أن مدونات التاريخ ومواقع التواصل التي تحدثت عن الحروب الدينية، متاحة لكل الناس تقريباً، إلا أن طبقة الحكم (مجتمعة)في بلادنا لا تقرأ ولا تتدبر، ومع أن الخلافات الدينية في العالم كانت وراء كل قطرة دم إريقت في المشرق والمغرب، ومع يقيننا جميعاً بان حروب الردة، في خلافة ابي بكر وكذلك المعارك التي اعقبت مقتل عثمان بن عفان، مروراً بالأنقلاب على المعتزلة والحروب الصليبية التي جاءت بسبب من اضطهاد المسيحيين في الشرق العربي، ومن ثم حروب الدولة العثمانية وحتى الحروب الدينية المسيحية، بين الكاثوليك والبروتستانت في اوروبا، وصولا الى الابادة التي تعرض لها الأرمن على يد الأتراك، وليس انتهاء بمحارق اليهود على يد النازية، وحتى التي ذهب ويذهب ضحيتها مئات الآلاف اليوم في العراق وسوريا وليبيا ومصر واليمن كلها حروب دينية بامتياز، حروب قامت بدعوى تطبيق إرادة(الرب)إلا أن الطبقات الحاكمة لدينا، في المشرق العربي هذا، ما زالت غير مصدقة بذلك. لا، بل ومازالت تبحث عن تمرين جديد لتطبيق الإرادة تلك.
كان عليَّ ان أسوق المقدمة الطللية هذه وانا أسمع من كبار قادتنا في السياسة ببغداد والبصرة والمدن الأخرى، بانهم إنما يريدون بناء دولة مدنية، هكذا، ببساطة. وكأن الزمن توقف عندهم، كأن الحزب الديني قادر على بناء الدولة المدنية المزعومة بذهنهم، وكما لو أنَّ الفم الغبي قادر على خلق الأنموذج للدولة عندهم، وكأننا لم نضطهد ولم ننفّ ونهجر ونمت يوماً بسبب من وجود الدولة هذه. الدولة التي سلبتنا حقنا في الفكر والمعتقد والرأي والحياة. ترى كيف يفكر هؤلاء؟ وإلى أي مدى يمكن لقراءة التاريخ ان تأتي بنتائج جوهرية لصناعة انسان جديد، إنسان حر، يتمتع بالحياة على وفق ما يعتقد، ويراه مناسبا لوعيه، ضامنا لمستقبله.
واحدة من موجبات الدولة المدنية ان لا يفكر صنّاعها بعقل ماضوي، وواحدة من موجباتها هو الوعي بكرامة الانسان، وسبل الأرتقاء به لا على اساس انتمائه لطائفة ما، وصون حقه في مؤسسات الدولة واحساسه بانه يحيا في دولة المواطنة لا كمواطن من الدرجة الثانية، من حق الموظف، أي موظف فيها، كبير او صغير، ان يضع ما يشاء من البيارق والصور والشعارات، في غرفة الخطار وفي غرفة النوم، لكن ذلك يحجب عنه ويحرّم عليه في المبنى الحكومي، الذي هو فيه، او مكتبه داخل المؤسسة الرسمية، لأنني إذا دخلت عليه وهو على الحال هذه، فيما انا على حال اخرى، بانتماء آخر فسينفي عن نفسه صفته الوظيفية وسيتعامل معي بوصفي آخر مختلف، وهكذا، سيحرمني من حقٍ طلبتُه، وساحرمه من صفة يحملها، وبالنتيجة سيفقد كلانا حق المواطنة التي ننشدها معا.
تصبح الدولة المدنية حلماً بعيد المنال حين يظل بائع قناني الغاز يطوّح في شوارع المدينة بنغمته القاتلة ( يمه ذكريني من تمر لمة شباب) وتصبح حلما ابعد وأبعد حين تبحث في مذياعك الترانسستور، وانت في خلوة ببيتك عن اغنية لفيروز فلا تجدها، وتزاحمك عشرات المحطات التي تبث مارشات الحروب والندب غير المنقطع والاناشيد الدينية التي تمجد والتي تذم، وتصبح الدولة المدنية حلما مستحيلا حين لا تجد حياتك في بيتك وبين أسرتك خارج بندقيتك، خارج عشيرتك، خارج حزبك الديني. وتصبح كذلك حين لا تسرع البلدية لحمل كيس النفايات بعيداً عن باب منزلك، وتنأى صورته حين تاخذ سيارتك في صباح شتوي بارد، من دون أن يستفزك مشهد عشرات المكاتب الحزبية الدينية، بين البيوت وفي الضواحي التي كانت آمنة ذات يوم، وقد ضاقت مخازنها بانواع الأسلحة، وسيكون الحلم أبعد مما تتصوره، حين تتيقن بان الدولة القائمة، والتي أنت تحت رحمتها، إنما تغض الطرف عن أسلحة العشائر الخفيفة والمتوسطة والثقيلة حتى ذلك، لأنها تعتقد بأن وجود الأسلحة بيد العشائرهذه ضامن لبقائها.