يبدو أن سكان المدينة الصغيرة قد تركوا نوافذهم مشرعة طوال الليل، وإلا فما كل هذه الفوضى؟ الصباح بارد اليوم، خرجت مبكراً ولذا تمهّلت في سيري نحو العمل، أراقب تحرّك الغيوم المذهل مع بدايات الشتاء، للغيوم حياتها الخاصة التي تزداد إثارة في هذا الفصل.كالحا
يبدو أن سكان المدينة الصغيرة قد تركوا نوافذهم مشرعة طوال الليل، وإلا فما كل هذه الفوضى؟
الصباح بارد اليوم، خرجت مبكراً ولذا تمهّلت في سيري نحو العمل، أراقب تحرّك الغيوم المذهل مع بدايات الشتاء، للغيوم حياتها الخاصة التي تزداد إثارة في هذا الفصل.
كالحالم كنت أسير حين أدركت فجأة غرابة ما يجري، مجموعة من الأوراق تتناثر على الرصيف، حملت واحدة منها وكان فيها سطر واحد، هو: لقد تركت وجهي تحت المطر.
لم أكد أكمل قراءة السطر حتى رأيت المشهد كاملا، ستائر تخرج من النوافذ متطايرة بخفة، وأوراق، أوراق كثيرة تملأ الأرصفة والشوارع وبرك المياه الصغيرة، وأخرى ما تزال معلقة بمسامير النوافذ تحاول الإفلات منها دون جدوى. أوراق تلتصق بواجهات المحال وزجاج السيارات.
من أين جاءت كل هذه الأوراق؟
ظللت واقفاً بعض الوقت مشدوهاً أمام ما أرى، ثم صرت أسير ببطء أختار بعض الأوراق وأحملها لأرى ما فيها، كان الأمر غريباً وغامضا، هل أنا في حلم؟
ـ أنا في علبة فضية.
ـ لقد رحلوا وبقيت ذاكرتي في خزانة ملابسهم.
ـ الكرة الزرقاء ما تزال تنتظر في الحديقة الخلفية.
ـ عليّ أن أفتح نافذتي وترك العتمة تخرج منها.
ما الذي تعنيه هذه العبارات القصيرة والغريبة؟
وصلت إلى حديقة صغيرة أخيراً بعد سير منهك، جلست على مقعد معزول فيها وصرت أتأمل ما رأيته منذ بداية الصباح وحتى الآن، بعد الظهيرة، كانت الأوراق قليلة في هذا المكان، ربما لكونه معزولا وبعيدا عن البيوت ونوافذها المشرعة، وفي تلك اللحظة من الهدوء المفاجئ أدركت أمراً آخر، أنني وحدي. لم أشاهد أي أحد في المدينة طوال الوقت الماضي. لكنني ترددت، هل أنا حقا وحدي؟ أم أن غرابة ما رأيت جعلتني أدخل في ذلك العالم ولا أرى شيئاً سوى الأوراق؟
لكن لا، الحديقة الآن فارغة، كنت أمرّ منها كل يوم أثناء ذهابي للعمل وكانت على قلة المتواجدين فيها آهلة ببعض الرجال والسيدات والأطفال الصغار.
تنبّهت إلى كوني جالسا على ورقة صفراء، أخذتها لأقرأ ما فيها، يبدو أن من كتبها سيدة خائفة، يمكن معرفة ذلك من خطها المرتبك والمتعرج، كانت قد كتبت تقول:
"سنرحل جميعاً هذا الفجر، والحكايات ستخرج، لن تضيع بالطبع، ستظل معلقة في سماء المدينة، وستحمل بعضها الريح، كان عليّ أن أكتب شيئا قبل المغادرة، لكنني أتمنى الآن ألا يقرأ أحد ما كتبت. أن تمضي كلماتي مع الريح وحسب."
تركت الورقة للريح أنا أيضا، هذا المصير الذي أرادته السيدة، وقرّرت المغادرة والعودة للبيت من طريق مختصر، لا أريد رؤية المزيد من الأوراق، ولا الحروف المرتبكة أو الخائفة.
في الطريق إلى البيت كنت أحاول إغماض عيني والسير، أقنعت نفسي بأنني أحفظ الطريق هذا جيدا ولا حاجة لفتح عيني، أريد الهروب من كل هذه الحكايات التي تلتصق بوجهي وتمسك بيديّ أو تسقط على رأسي. لكن قدميّ كانتا تدوسها طوال الوقت، كنت أسمع صوت الأوراق حين تعبرها قدميّ. وحين وصلت البيت كنت منهكاً جداً، فنمت.
كان الغروب قريبا حين استيقظت، وعيُ كامل بحقيقة ما رأيته في النهار جعلني أتخلى عن الأفكار الساذجة بكونه مجرد حلم عابر يبدّده الاستيقاظ.
أطللت من النافذة وكان الزقاق ما يزال يغصّ بالأوراق، صرت أدور في الغرفة وأتساءل عما جرى، لماذا غادر الجميع؟ لماذا لم يخبروني بذلك لأغادر معهم؟ وما معنى أن يكتب كل واحد منهم سطوراً يحكي فيها ما يريد ثم يدعها تطير عبر النافذة؟
قلت إن عليّ فعل ذلك أيضا، سأكتب شيئا وأفتح النافذة ثم أغادر، لا بأس بالتأخر، لكن.. ربما عليّ البقاء، هل كتبوا كل تلك الأوراق لي لأقرأها؟ لأعيد كتابتها ربما..
خرجت إلى الشارع وبدأت بجمع الأوراق واحدة تلو الأخرى، دون أن أقرأها كيلا أنشغل بالقراءة عن جمعها، جمعت خمسين ورقة تقريبا حين بدأت السماء تمطر، بدأ المطر خفيفا كعادته ثم اشتدّ، أدركت عبث ما أقوم به، فما جمعته صغير وتافه مقارنة بما رأيته صباحاً، فماذا أفعل؟
هل أتركها لمصير المطر والرياح، ربما هذا ما أرادوه، أن يكتبوا حكاياتهم ويرحلوا، وأن تختفي كل السطور.
تركت الأوراق تفلت من يدي..
وتطير،
أو تتبلّل ويمحى ما بها،
أو حتى تغرق..
ووقفت أرى: رماديٌ وجه السماء، وأزرق وجه الأرض.
والريح التي تمرّ، تلمس النوافذ والأبواب والحقائب المهجورة، تحمل كل هذه الحكايات وتعبر.
جميع التعليقات 1
حنان مصطفى
ما أجمل هذه الخيالات التي تبدعين في ترجمتها حروفا يا رحمة الراوي