أقول جازماً بانَّ الطبيعة، أي طبيعة جغرافية، تلقي بظلالها على النفس الانسانية، وإذا كان العرب قد قسّموا الناس قسمين: أهل المَدَر وأهل الوَبر، ويعنون بأهل المدر سكان المدن والحواضر، وأهل الوبر سكان الصحراء والبادية، فهم بذلك لما يكونوا ليعرفوا شيئاً عن سكان الماء والنخل، لما يشعروا بعد بالظلال ومعنى السكنى بين الاشجار والتنعم بما تجود به الطبيعة هناك، حتى جاء من جاء بعد ذلك، ليفرق بين البدو والحضر، بين أهل الصحراء وأهل الماء. فكان العراقان(البصرة والكوفة) المثالين الأصدقين في تقريب الصورة، وهكذا أصبحنا نتلمس نوعاً جديداً من العيش سنسميه بالأخضر، وما بين الأنهار، في الريف وفي القرية، فكانت الأراضي والبساتين الخضر التي تحيط بغداد العباسية أنموذجه الأجمل فيما بعد، وبما أنتج لنا معنى جديداً مختلفاً عن مفردتي المدر والوبر.
سأكون بحاجة إلى تأمل نوع الحكم والسياسة العامة التي انتجت لنا الصورة المثالية للحياة في بغداد والبصرة خلال القرون الثاني والثالث والرابع من الهجرة، وسنكون بحاجة الى تتبع علاقة الدين والحكم والمجتمع، ونبحث فيما إذا بلغ التشدد الديني عند العامة بخاصة، ما يبلغه عندنا اليوم، ثم نعرّج على طبيعة الحياة والحريات الشخصية والعلاقة بين الطبقات وفحص المجتمع اقتصاديا وثقافيا وفكريا وما الى ذلك. لكننا، قد نفاجأ إذا ما دلنا بحثنا هذا على أنَّ أهلنا، حكاماً وفقهاء وخاصة وعامة الزمان ذاك، كانوا أكثر منا انفتاحاً، وأوسع منا مداركاً، وأقلنا تشدداً، وأحرص منا على التوسعة في العلم وتقبل المختلف والمغاير، ألطف منا في معاملة الأهل والجار والصديق والأجنبي، وأنَّ مدننا كانت مستقبلة لطالب الرزق والعلم والحياة المطمئنة الآمنة، حين كان الدين علاقة سرية وخاصة بين الفرد وخالقه.
هل يكفي قولنا أن بلادنا تغرق بمصائبها التي لا تعد، منذ عقد ونصف تقريبا، بسبب استخدام الدين في الحكم، ومن ثم استخدامه في مفاصل الحياة، وزجه في كل صغيرة وكبيرة، بما جعل من فسحة العيش غير ممكنة، وبما يتسبب بموتنا يومياً، وهل يكفي أن نشير الى أن هجرة أكثر من ثلاثة ملايين عراقي إنما جاءت بسبب العنف بين الطائفتين الكبيريتن ، وهل يكفي أن نشير الى بديهية باتت ساذجة جداً، مثل قولنا: إن العنف ضد الشيعة ينتج عنفا ضد السنّة والعكس صحيح، وأن بيت رجل واحد من أهل السنّة في شارع شيعي بات مستحيلاً، أو أن هجرة المسيحيين والمندائيين والشبك والأيزيدية وغيرهم جاء بسبب من كراهية الآخر المختلف والتشدد الديني، أيعقل أننا وبعد الذي جرى ويجري، سنكون بحاجة الى تأكيد ذلك والتعريف به، والبحث في حقيقته ؟؟
نعتقد، جازمين بأن الوقت قد آن لكي يبحث سياسيو البلاد، في ما بعد مرحلة داعش والتحاصص والتوافق والمخاوف من هيكلة العملية السياسية، والتهديد بنسفها،كما كان يصرح بذلك رئيس الوزراء السابق، فهذه تعابير ومصطلحات أصبحت تزكم الأنوف، وهي محط سخرية الناس. وعلى الناس ان يقولوا لهؤلاء: هيا،اخرجوا من قمقم الدولة الدينية ودهليز التوزيع الطائفي الى رحابة الدولة المدنية والمواطنة، قبل ان نخرجكم منها بالقوة، فقد أنهكتم البلاد وحطمتم مستقبل أبنائنا، وأننا لن نتوقع معجزة عندكم تنتشلنا من مستنقعكم هذا، او ان البلاد ستكون بخير على أيدي غيركم. وعلى الشعب أن يعي بأن رحيل الحاكم الظالم لن يتم بالدعاء عليه في المساجد، وأن دولة العدل الإلهي موجودة في الكتب لا غير، ذلك لأن 1437 سنة مضت على فكرة الدولة الموعودة هذه، التي لم تقم ساعة من النهار. واخيرا، بغداد ليست مكة او المدينة.
بغداد خضراء .. هي ليست مكة أو المدينة
[post-views]
نشر في: 29 نوفمبر, 2016: 06:01 م