سمعت كثيراً عن (قبر الأصابع) كما يسميه الهولنديون، وهاهي فرصتي قد سنحت أخيراً لزيارته والاطلاع عليه عن قرب، كنت متشوقاً للوقوف أمامه والتطلع اليه، لأستعيد حكايته العظيمة التي بقيت خالدة في أذهان الناس. أنا بطبيعتي أبحث بشكل دائم عن الأعمال الفنية والشواهد التي فيها لمسات عاطفية او تعكس لمحة إنسانية راقية، ولا أتردد أبداً في الوصول الى ما تراه نفسي جميلاً ويقوي عاطفتي ويمنحني ثقة بالسمو الذي يجب ان يكون عليه الانسان، والرفعة التي تنطوي عليها الروح. هي دروس في الجمال الذي أبتغيه في اغلب الأحيان، وهي محاولات إيضاً لطمأنة شيء بداخلي يتعلق بحساسيتي ورؤيتي كفنان.
ركبت القطار الذاهب الى الجنوب الهولندي، بغية الوصول الى قرية كاتسهوفل في مقاطعة براباند، حيث تقع المقبرة القديمة التي أنا بصدد زيارتها ورؤية قبر الأصابع (هما في الحقيقة قبران محاذيان لبعضهما). وصلت القرية وسحبت خطواتي نحو المقبرة التي بان سياجها من بعيد، وانا أفكر بقصة هذا القبر، الذي تقول الحكايات بأن قصته قد بدأت حين تزوجت البارونة الشابة يوزفينا فان آيفرند من الكولونيل فان خوركم سنة ١٨٤٢، كانت هي كاثوليكية تنتمي الى طبقة الملوك، وكان هو بروتستانياً من عامة الشعب. وبعد أربعين سنة من الزواج توفي الكولونيل، ودُفِنَ في مقبرة البروتستانت حسب التقاليد الهولندية، وبعده بثمانِي سنوات توفيت زوجته البارونة التي وُجِبَ دفنها في مقبرة الكاثوليك، والتي كانت محاذية لمقبرة زوجها. وشاء ان يكون قبراهما متقاربين، لا يفصل بينهما سوى جدار واحد، وهو نفس الجدار الذي يفصل المقبرتين عن بعضهما، جدار مرتفع مبني بالطوب الأحمر. وهكذا بقيت المقبرتان على هذا الحال، وبقي الحبيبان، كل منهما في مقبرة، هي مقبرة التقاليد والأعراف والعقائد التي تفرق بين الناس.
لكن رغم ذلك ومع مرور الزمن يورق الحب من جديد وتزهر العاطفة. فذات يوم بعيد، وكما أقف الآن امام هذا القبر، وقف فنان مجهول يتأمل بحسرة هذا الجدار الذي فرق بين هذين الزوجين المحبين. وقتها فكر بطريقة فريدة ومدهشة ليجمعهما معاً من جديد، ويثبت ان الفن بدون عاطفة لا يساوي شيئاً، وكذلك ان الحب بدون لمسات جمالية لا يدوم أطول. عندها عمد هذا النحات الى ان يجعل القبرين اكثر ارتفاعاً ويقتربان من ارتفاع الجدار الفاصل، ثم أضاف فوق كل منهما شكلاً يشبه بيوت العصافير التي تملا الحدائق الهولندية، ومن هذين البيتين امتدت يدان باتجاه بعضهما، واحدة لرجل والثانية لـامرأة ( بدانتيل يبدو مخرَّماَ على الكم) لتقتربان واحدة من الأخرى بمشهد يبدو مثل الأعجوبة ببساطته وحنوِّهِ، حيث تشق الأصابع طريقها نحو بعضها وتتلامس رغم الحاجز ورغم قوة الموت وصرامة التقاليد. هكذا أكرر وقوفي على الجانبين امام هذا الشاهد الصغير في حجمه والباهر في تأثيره ومعناه، لأتطلع الى قصة حب، بطلها هذان القبران الأبيضان واليدان اللتان تتحديان الجدار والزمن والموت لتعيد للحكاية نوعاً من الحياة التي تقترب من حياة الزهور التي تحيط بنفس القبر، وتشبه النباتات الخضراء التي تتسلق هنا وهناك وكأنها تريد ان تتأكد من وجود اليدين ودفء أصابع العاشقين في قمة المشهد.
ودعت هذين العاشقين، وأدرت ظهري وأنا أفكر بمثل شعبي هولندي يقول (الحب القديم لا يصدأ)، لأردد بعدها مع نفسي، ان الحياة بدون محبة وجمال وفن، لا تصدأ ايضاً. أخرج من المقبرة التي تشبه متحفاً في الهواء الطلق او حديقة مليئة بالأشكال الفنية، حيث تنتشر على القبور منحوتات المرمر وبأساليب تقترب بشكل عام من الآرت ديكو. مقبرة كبيرة تركتها خلفي، لكن قبراً واحداً سيبقى في ذاكرتي الى الأبد، مثلما سيبقى ذلك النحات المجهول الذي اعاد صياغة المحبة من جديد، بشكل طريف وبسيط، لكنه عميق أيضاً.
قبر الأصابع
[post-views]
نشر في: 2 ديسمبر, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...