TOP

جريدة المدى > عام > عنّا و عن الكتب

عنّا و عن الكتب

نشر في: 4 ديسمبر, 2016: 12:01 ص

في الجلسات التي حضورها يجمع متعددي الثقافات ومختلفي مستوياتها، دائماً ما يحصل تضاد مصحوباً بانفعال أو هوج أو افتقاد حكمة. أنا شخصياً أتجنب هكذا مجالس أو مناسبات وبهذا أريح نفسي كما احرمها أحياناً. المهم اني امضيت العقدين الاخيرين من السنوات بشبهِ عزل

في الجلسات التي حضورها يجمع متعددي الثقافات ومختلفي مستوياتها، دائماً ما يحصل تضاد مصحوباً بانفعال أو هوج أو افتقاد حكمة. أنا شخصياً أتجنب هكذا مجالس أو مناسبات وبهذا أريح نفسي كما احرمها أحياناً. المهم اني امضيت العقدين الاخيرين من السنوات بشبهِ عزلةٍ أو نأي عن الادعاءات والخلافات وسماع ما لا يرضي.  

لكنها صدفة ، وكان لزاماً عليَّ أن أتخذ مكاني بينهم. قلت هو خير من ازعاج الناس بمغادرتي وكأني أعلى وكأنهم أدنون. وإذ بقيت، فقد اتخذت قراراً بالحفاظ على صمتي وعلى بعض عزلتي وأنا في "الميدان".
مرَّ نصف الساعة الاولى بما يشبه الترضيات مع قليل من الرياء وقليل من الكذب، أو كثير ، وقليل من إظهار الفضائل والحشمة ثم جاءت الوطنيات وذهبت وأنا صامت أترقّب انتهاء الجلسة أو اقامتي القسرية لأغادر..
لا ادري من الذي أثار ذلك الصاخبَ جهوريَ الصوت، الذي لا تستقر ذراعاه وإشاراته وكيف استُفِزَّ هذا المترئس ذو الصوت الضخم المحتد أبداً. ربما حين قال له أحد الجالسين ممن يعرفونني .. هذا كاتب وله العديد من الكتب. يبدو انه سأل قبل هذا عني، عن هذا الصامت لا يربأ به وبما يقول من دون الآخرين، فلا يستحسن ولا يُطلق قهقهة وكأن لا أهمية له عندي. وجد فرصته، سيواجه هذا الصامت الذي يبدو غير راض عن مقولاته، هو صاحب الحضور الواضح ، الصاخب، شاغلُ الناس.
فاجأني، ولا اقول فاجأنا، بأن مشاكل العالم كلها ودمار الناس سببها الكتب. هي اتلفت القيم والتقاليد ونشرت الاختلاف بين الناس وكانوا من قبل اهلاً منسجمين وصار الناس بسب هذه الكتب يشكوّن حتى بوجود الله خالق السماوات. والكتب، ومد ذراعه باتجاه وجهي، هي التي علمت الناس الجرائم وهي التي انشأت الاحزاب ومنها كل المصائب التي حلت علينا. هي منها وليس من سواها كل الشرور اليوم ... الخ. الخطبة التي تمنيت ان تكون بتراء...
إذن هُوجمتُ أو هُوجمت الكتب وعلمت انها في رأيه ، سبب أضرار كثيرة للارض وللعالمين.
قلت: هي ساعة الحكمة ودرس التهذيب مقابل الطيش والفوران وعليَّ أن اختار جيداً طريقة الرد، فأنا افيده والناس كما امسح الادانة عني أو عن الكتب. قلت:
لنفترض ايها الاصدقاء ان العالم بلا كتب. فهل سيكون افضل؟ طبعاً عالم بلا كتب يعني عالماً بلا مطابع ولا أجهزة استنساخ ولا معاهد ومصادر علوم وسيكون اكثرنا لا يعرفون القراءة والكتابة وسيعتمدون على بضعةٍ يعرفون القراءة والكتابة نصف معرفة وسنحتاج نُسّاخاً يدويين وستتحكم بنا قلة يتناقلون معارف خطأً وصواباً. ثم تصوروا مجتمعاً "صار" صناعياً وفيه تجارة و مقاولات واتفاقات دولية وليس فيه طباعة. فهل نضعُ شهوداً أم نعتمد الثقة أم نقسم يميناً ام نصبح حرساً على ما اشترينا لنؤكد عائديته، ما دام لا مكان لطباعة تسمح لنوزع نسخاً على الاطراف ونوثق في الدوائر. أو أننا سنعتمد محترِفاً وشهوداً قد يموت بعضهم بعد أيام؟ والأدهى ان علينا ان نحفظ عن ظهر قلب كميات من المواد الخليط وان أي نسيان سيسبب لنا خسارة؟ ومن لا يملك مهارة يدوية ليكتب بنفسه او لايعرف القراءة، لا يدري مدى صحة ما كتبوه له .. ومن يريد ان يطلع على موضوع، ينتظر من هو على علم به واين يجده ولا ندري مدى صواب ما يقول.
الحياة خلو من الكتب، ستكون خلوا من المطابع ونادرة صناعة الورق، وكما ترون الحياة بهذه السعة وهذا التعقيد. ثم هل تعلمون بأن عدم وجود كتب يعني ان على المهتم الاعتماد على شراء المخطوطات وهذه مكلفة وقد لا نحصل عليها. ثم كيف سيكون التعليم؟ هل نعتمد الشفاهية كما كان اسلافنا القدامى وكم سيكون عدد الدارسين؟
أنني اوافقك، ايها الاخ الكريم، على منافع افتقاد الكتب. اننا في حال افتقادها ستقوى عندنا الذاكرة وتكتسب اكفنا مهارات الكتابة و سيتحسن خطنا لكن مقابل زيادة الحكواتية وسماع القصص، المكرر منها اضعاف الجديد منها. وستتحكم بنا مجموعة من المحتكرين من الرواة والكتبة. ثم إذا اردنا تذكرة دخول او ركوب طائرة او قطار او دخول سينما أو نادٍ، سيعطوننا قرصاً او قطعة حديد أو يؤشر بصبغة على أيدينا... أوافقك أيضاً على سوءة اخرى للكتب هي انها تحتفظ بسيئاتنا واخطائنا وتنشرها في أمكنة كثيرة ولن تمّحي حتى بعد موتنا. واوافقك على اننا سنتخلص من الكتب السفيهة الهابطة. التي تتكوم علينا بدلاً من ان تذهب للقمامة. لكن تذكر أيضاً ان كثيراً من الكتب المهمة التي وصلت الينا، كانت من قبل نسخة واحدة محفوظة في خزانة في مكان..
نعم، انت قد تضجر من كتاب بعيد عن عملك  او هواياتك. لكن هذا لا يعدم فائدته لسواك. وانت ربما تقول بما يقولوا به اخرون: ان الشعر والرواية والكتابات الادبية يكتبها ناس متبطلون يغرقون ساعات في احلام النهار او احلام اليقظة ثم يصحون فيكتبون ما كان. وهذا بعيد عن حياة الناس الواقعية. انه غير حقيقي. هذا هو رأيك. واقول هذا صحيح ولكننا نريد ان نتصور عالما اخر او نعيش تجارب اخرى او نرى شخوصا اخرين ونحتاج الى انتباهات ذكية لما نغفل عنه او يفوتنا. وهذه من فضائل كتب الادب. ان كنت لا تحتاج لها فاقرأ كتبا اخرى تعنيك او تريحك. لا تعرف القراءة؟ حسنا، لا تشتم الكتب!
نعم انا معك ان حياتنا اتسعت كثيرا وامتلأت بما يفيد ولا يفيد. لكنك تفهم وانت صاحب رأي. اذن، خذ ما يفيدك ولا تلعن الحياة بسبب بضاعة واحدة سيئة.
بقي أن أقول لك وأنا اغادر: انت تظن ان هناك الكثير جداً من الكتب. لا يا سيدي، ما تزال الكتب الجيدة قليلة والممتازة الثمينة نادرة، لا في بلادنا وحدها ولكن في العالم كله. ليلة طيبة. تأخرتْ!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

الحصيري في ثلاثة أزمنة

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

موسيقى الاحد: احتفاليات 2025

تنويعات في الوضوح

مقالات ذات صلة

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي
عام

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

خضير الزيدي مرت التجربة الفنية العربية بعدة متغيرات اسلوبية وطروحات فكرية ومنها (التجربة العراقية واللبنانية وبعض الدول العربية) وكانت مرحلة ستينيات القرن المنصرم الفترة الملفتة حسب اراء نقاد الفن ومنها انطلق الفن العربي مواكبا...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram