TOP

جريدة المدى > عام > التأثير والتأثّر.. بين حساسية الأديب، والفهم الخاطئ

التأثير والتأثّر.. بين حساسية الأديب، والفهم الخاطئ

نشر في: 5 ديسمبر, 2016: 12:01 ص

(1)يجب أن أقول، ابتداءً، إن هذه المقالة هي بعضٌ من ورقة قديمة منشورة لي، مع تطوير وإضافة استوجبتها استمراربة ظاهرة سلبية تكلمت عنها حينها، بل تراجعُ البعض في فهمها، في وقت ما عادت، فيه الأوساط الثقافية والأدبية في العالم، ومن زمن طويل، تعانيها، هذا إ

(1)
يجب أن أقول، ابتداءً، إن هذه المقالة هي بعضٌ من ورقة قديمة منشورة لي، مع تطوير وإضافة استوجبتها استمراربة ظاهرة سلبية تكلمت عنها حينها، بل تراجعُ البعض في فهمها، في وقت ما عادت، فيه الأوساط الثقافية والأدبية في العالم، ومن زمن طويل، تعانيها، هذا إنْ كانت قد عانتها أصلاً. فإن لمن السهولة للمتتبع أن يرصد في خضم النشاط الثقافي، على كل مستوياته وأشكاله ما نسميه خلطاً وسوء فهمٍ لظاهرة التأثير والتأثر في الإبداع وللقول بهما في النقد، وهو الخلط أو سوء الفهم الذي يمكن تصنيفه كظاهرة في وجهين: هو في الوجه الأول انعكاس لما نسميها حساسية المبدع إزاء القول بتأثره بغيره، بل الرد على القول أو التشخيص بانفعال وعصبية أحياناً. أما الوجه الثاني فهو التطبيق المقارن الذي يعكس الفهم الخاطئ، ولا نبالغ إذا ما قلنا الساذج أحياناً، لما يعنيه التأثير والتأثر، والجهل الذي يبدو أحياناً كبيراً بالأدب المقارن بشكل عام، وهو ما قاد نقاداً وأدباء إلى أن يفهموا القول بتأثر الأديب بآخر على أنه سرقة، وقاد آخرين إلى أن يروا التأثر الواقع فعلاً في نصوص أو مؤلفات كاتب ما على أنه سرقة، وفي النتيجة كانت حساسية تلقّي الأديب العربي للقول بتأثره بآخر.
(2)
فانطلاقاً من وجود ما يذكّر بلوركا في قصص ومسرحيات القاص العراقي جليل القيسي، سُئل الكاتب مرة عما إذا كان لهذا الشاعر والمسرحي الإسباني تأثير فيه وفي أدبه، فأجاب بالقول "رغم عشقي وحبي لمسرحياته، غير أنه لم يؤثر فيّ البتة". اعتدت على أن استشهد بهذا مثالاً على تلقّي الأدباء القول بتأثرهم بأدباء آخرين بحساسية تدفعهم إلى الإسراع بنفي أي احتمال لهذا التأثير أو التأثر، وبعصبية وشدة أحياناً، وكأن مثل هذا التأثير والتأثر يعيبهم ويعيب نتاجاتهم ويمس مواهبهم وأصالة عطاءاتهم. فهنا ليس من المعقول ولا المقنع أن يُعجب أديب كجليل القيسي بأديب آخر مثل لوركا ويعشقه بهذا الشكل– على حد تعبير القاص نفسه– من دون أن يتأثر به بدرجة أو بأخرى. فهذا من منطق الأشياء، لا في الكتابة والعلاقات الأدبية فحسب، بل في الفن والسياسة والاجتماع، والعلاقات البشرية. في مثال آخر، تهيأ لي، في حوار طويل أجريته في موسكو مع الكاتب الكبير غائب طعمة فرمان، أن أفاجئه، بسؤال عن تلك التشابهات غير القليلة التي وجدتها بين روايته "ظلال على النافذة"، ورواية وليم فوكنر "الصخب والعنف"، فأجاب فرمان بالقول: "يجب أن أقول بأني أفاجأ بهذا السؤال... أن تكون "ظلال على النافذة" منأثرة بـ"الصخب والعنف"، فهذا شيء غريب جداً. وعندها عرضت عليه تفاصيل ما كنت قد هيأتُه لهذا الحوار مما رأيته تلاقياً بين العملين بدءاً بخطوطهما العامة ومروراً بشلك أساس بالشخصيات، وانتهاءً ببعض التفاصيل. عندما استمع الكاتب، قال باندهاش:
"يجب أن أقول إني مندهش لاكتشافك هذه الأشياء! فهي غريبة جداً، ولكنها تبدو صحيحة وليس عندي اعتراص عليها".
لكن الحكاية لم تنتهِ عند هذا الحد، بل بقي شاهد حديثنا وملاحظاتنا حول حساسية الأديب تجاه القول بتأثره بغيره. إذ لم تمض أيام قلائل على عودتي إلى مقر دراستي في المملكة المتحدة، حتى تلقيت رسالة من الكاتب تجسد هذه الحساسية، والرفض اللذين أشرنا إليهما، قال فيها:
"يستطيع القارئ أن يجد أوجه تشابه كبيرة في أعمال كثيرة، حتى لعظام الكتاب [لاحظ كلام فرمان هنا كيف يبدو فيه وكأنه في موضع اتهام، وما هو كذلك إطلاقا بالطبع]، والمسألة كلها تتلخص في أن الروايات في الغالب لا بد أن تصف عائلة لديها من الأولاد بقدر ما لدى عائلة (كومبسون) في رواية (الصخب والعنف)، أو عائلة (عبد الواحد الحاج حسين) في رواية (ظلال على النافذة). ولكن هل معقول أن (عبد الواحد الحاج حسين) يحمل نفس قيم كبير العائلة في رواية (الصخب والعنف)؟ أعتقد أن ذلك تجنّ. أعتقد أن هناك تجاوزاً، تجاوزاً خطيراً في المحاكمة لتلمّس وجه شبه بين أعمال وأعمال..، أنت إذا حكمت على عمل أدبي بالتشابه مع آخر نزعت عنه كل قيمة وأصالة وجعلته تابعاً للعمل المقلَّد.. وهذا ما أرفضه".
ومن الطريف أنْ اكتشف بعد عقدين من وفاته، وبالصدفة وحدها، أن كاتبنا الكبير قد نبزني بدون أن يسميني حين عبّر عن بعض استياء من دارس- ولم يكن هذا الدارس إلاّي- يقول بتأثره بكتّاب آخرين. وهنا يُخطئ فرمان تماماً في هذا، ويمثل رأيه في التشابه واللقاء بين أعمال بمنطق غير صحيح إطلاقاً.
(3)
ومثل هذه  الأمثلة على حساسية الأدباء تجاه هذا الأمر كثيرة ولا تشمل الأدباء العرب من الشباب فقط، بل من الكبار، كما هو حال فرمان والتكرلي والركابي، أو من محبّيهم كما هو حال بعض من فهم بعض كلامي ضمن دراسة طويلة عن واسيني الأعرج تعلّقاً بروايته "مملكة الفراشات"، وكأنه انتقاصٌ منها أو اتهامٌ لصاحبها بالسرقة فيها، وهي عندي، لو يعي هؤلاء، أعظم بكثير من أن تُتّهم بالسرقة، وإنْ ظهر من يقول بهذا فيها فإنْ هو عندنا إلا مخطئ، ولا أريد أن أقول جاهلاً، وقليل فهم لظاهرة التلاقي والتناص التأثير والتأثر التي ما خلا منها أدب ولا أديب ولا عمل حي. ونرى شخصياً أن مما يمكن أن يكون أحد أسباب هذه الحساسية، أو لتقويتها، ما أشرنا إليه في بداية مقالنا هذا، نعني الفهم الخاطئ لما يعنيه التأثير والتأثر بشكل خاص، والجهل الكبير نسبياً بالأدب المقارن وإنجازاته بشكل عام. ففي سياق حماسة وتعاطف، لا شك في صدقه، مع الروائي عبد الخالق الركابي، لبس أحد النقاد لبوس المدافع عما لا يحتاج إلى دفاع والمهاجم لما لا يستحق أن يهاجَم، وقال:
"أقول إنه شيء مؤلم ويوخز النفس، ما أن يظهر عمل عراقي متميز في الرواية او القصة القصيرة أو الشعر حتى ينبري له (حواريو التناص والتأثر والاقتباس) في محاولة جادة للحط من شأنه وعده تقليداً أو اقتفاءً لعمل أجنبي".
فواضح أن صاحب الرأي ينطلق هنا من فهم القول بالتأثر على أنه اتهام وغض من مكانة المتأثر وأصالته واستصغار له. والحقيقة أن مثل هذا يتعدى الناقد الشباب إلى أساتذة جامعيين. نستعين هنا مرة أخرى بتجربتنا العملية، فنستذكر أننا في نهاية قراءتنا لورقة بحثية عن تأثير فرانز كافكا في روائيين عرب، في أحد المؤتمرات الأكاديمية، فوجئنا بأستاذين يهنئاننا على بحثنا، لا لعلميته أو عمقه أو لما قدمناه فيه من تشخيصات، كما يُفترض أن يفعله الباحث في أية دراسة تطبيقية مقارنة، بل لأننا "فضحنا أولئك الروائيين العرب الذين يدّعون أنهم كتاب كبار"– على حد تعبير الأستاذين. وكأن الدراسات المقارنة لا تبحث في التأصيل وتسهم في الكشف عن مغاليق نصوصها وعن إفادتها من تجارب السابقين بما يقود إلى الإبداع، بقدر ما تكشف سرقات وفضح اأدباء.
(4)
ونعود إلى التأثير والتأثر، ولكن بمعزل عن الفهم الخاطئ هذه المرة، لنقول إن أي أدب قومي ، كما هو شأن أي قومية وأي مجتمع ، لا يمكن أن يعيش وينمو ويتطور بمعزل عن الآداب القومية الأخرى. إن أمر التأثير والتأثر واقع لا محال على مستوى الآداب القومية عموماً، ومنها الأدب العربي الحديث، وعلى مستوى الأدباء، بل الأعمال– فرادى– أيضاَ. كما ليس من كاتب في أي أدب قومي، وضمن أي فن أدبي بمنجى من ذلك، بل هو أمر لا مفر منه للوصول والتطور والتواصل. من هنا لم يكن غربياُ أن يقرّ كُتّاب كبار بما يقع عليهم من تأثيرات. فهذا كبير الرواية الأمريكية وأحد أعمدة الرواية في العالم، وليم فوكنر مثلاً يقر بدون تردد بتأثير آخرين فيه، بل هو يقول: إن شيروود أندرسون "قد كان أب كل أعمالي، وأعمال همنغوي، وفيتزجيرالد.. إلخ. كلهم كانوا متأثرين به". وهذا إرنست همنغوي لا يكتفي بالإشارة إلى كاتب مؤثر واحد، بل هو يشير إلى مارك توين وفلوبير وستندال وتشيخوف ودستويفسكي وآخرين. والأمر نفسه أقرّ به كامو وفيتزجيرالد وآخرون، كما لم يتردد في الإقرار به كتاب عرب كبار مثل جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن مجيد الربيعي ونجيب محفوظ وغسان كنفاني وغيرهم. وقبل هؤلاء كلهم نتذكر إشارة غوتة البليغة في تعليقه على تهنئة مدير أعماله له لمناسبة صدور المجموعة الكاملة لمؤلفاته، حين يقول: إنها كلها ليست من عندي. فمع ما قد يعكس ظاهر الإشارة من الاقتباس واللا أصالة، وربما السرقة، مما لم يفعله غوته في أعماله ولم يقل به أحد بالطبع، فإن الأمر غير ذلك تماما، إذ هو يعني أن كل ما يدخل الكتابة والإبداع عموماً من أفكار وما تنطوي عليه من موضوعات ومعالجات إنما هو مطروح للجميع، كما سبق لأدباء عرب قدماء أن عبّروا عنه بالقول بأن ليس هناك ما لم يقله الآخرون قبلاً. ويبقى المهم هو كيف نأخذ هذا المطروح ونتلقّاه ونستوعبه ونهضمه لنعود فنقدمه بلبوسنا ونفسنا وشخصيتنا، ونضفي عليه ما يجعله لنا لا للآخرين، مع كل ما يمكن أن يلمسه فيه المتلقون من أولئك الآخرين الذين سبقونا، ونحن، ونحن بعدُ وكما قال فاليري، كالأسد الذي إنْ "هو إلا كباش مهضومة"، ولكن المهم أن الكباش تكون مهضومة ولا تُظهر الأسد بصورة كبش، بل بالصورة نعرفها به: أسد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

الحصيري في ثلاثة أزمنة

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

موسيقى الاحد: احتفاليات 2025

تنويعات في الوضوح

مقالات ذات صلة

الطفولة بوصفها السّاحةَ الّتي تتوالى عليها الأحداثُ والمجرياتُ الّتي يمارسُها المبدعون
عام

الطفولة بوصفها السّاحةَ الّتي تتوالى عليها الأحداثُ والمجرياتُ الّتي يمارسُها المبدعون

استطلاع/ علاء المفرجي تتواصل المدى في الوقوف عند محطات الطفولة والنشأة الأولى عند عدد من مثقفينا ورموزنا الفكرية، ومن خلال حواراتهم مع المدى، وتكمنُ أهمّيّة المكان والطفولة بوصفها السّاحةَ الّتي تتوالى عليها الأحداثُ والمجرياتُ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram