جمال جصانيهكذا هو المصير الذي تتدحرج اليه الافكار والشعارات التي انتشلت غير القليل من الشعوب والقبائل من عتمة العبودية والاستبداد، الى عتبة الحرية والكرامة ولائحة حقوق الانسان، عندما تقذفها الاقدار الى احضان مضاربنا. عادة ما تلتقي الشعوب والمجتمعات في منحدر المنعطفات التاريخية،
عند محور او رمز او شخصية تتجسد فيها الحكمة والبرنامج الواقعي المتناغم وروح العصر. هكذا كان الحال في الكثير من اوطان هذا العالم الذي يزداد صغراً وتراصاً، وهذا الامر يمكن مشاهدته في تجربة جنوب افريقيا، وكيف التفت تلك الآمال وذلك البرنامج الحكيم حول شخصية نيلسون مانديلا...بالرغم من التباين الكبير والهوة الواسعة التي تفصل بين السكان الاصليين (السود) والمستوطنين (البيض) وكل ذلك التاريخ الطويل من العسف والاضطهاد والتنكيل، الا ان كل ذلك لم يدفع مانديلا ورفاقه لان يطلبوا نجدة أو غوثاً من خزائن علوم وموروثات (التحاصص). تلك المنظومة القيمية غير الملوثة بأدران التحاصص جعلته ينأى بنفسه عن خوض جولة ثانية لرئاسة البلاد رغم شعبيته الكاسحة، واهباً ماتبقى من عمره لخدمة المحتاجين والمرضى من الاطفال والشيوخ وباقي الشرائح المهمشة. وما يحز بالنفس ان يدرك القليل منا؛ ان هناك العديد من امثال نيلسون مانديلا والمهاتما غاندي والجنرال ديغول قد ومضوا في مضاربنا لكن حراب العتمة كانت اليهم اسرع من انعتاق سكان (البستان) من اغلال غيبوبتهم. ذلك النزيف المتواصل للسلالات المتوهجة والنادرة، شرع بوابات (البستان) امام كل انواع القوارض والزواحف، مخلوقات مازالت تواصل ممارسة هوايتها المحببة في اعادة تقسيم الاسلاب. لم يحدثنا تاريخ الامم والمجتمعات عن تطور أو حضارة كانت قد شيدت من عجاج المهرولين صوب الوليمة، لا بل شاهدنا العكس تماماً؛ في سيرة حياة الاحرار والمبدعين، الذين اعتزلوا مختلف الدعوات الى ولائم السلاطين واولي الامر وصنوف المغريات؛ دفاعاً عن شأن وجلال العقل والكرامة الانسانية. ذلك ماادركه ابو جعفر المنصور عندما أطلق جملته المأثورة عن شيخ المعتزلة الزاهد عمروبن عبيد، والتي اختزلت في جوفها البرنامج الازلي لسلالات المتحاصصين في كل زمان ومكان، عندما قال: (كلكم يطلب صيد غير عمروبن عبيد). غير القليل من الاقلام الزاحفة حاولت ان تلقي بـ (لعنة) التحاصص على قوات (الاحتلال) من دون ان يكلفوا انفسهم قليلاً، لا في تصفح ذلك التراث الملبد بسحب التشرذم الممتد الى اكثر من الف عام، بل حتى لم يلتفتوا الى ماتركه لنا الملك فيصل الاول من وجع وحيرة في تجربته من أجل تحقيق المعجزة (الامة العراقية) والبعض الآخر خاصة ذلك الصنف المولع بقفزات (الكنغر) يعد ذلك (التحاصص) بمثابة ترجمة ابداعية لتلك النظم السياسية التي فكت اشتباك مكونات سكان رقعة جغرافية ما عبر التوافق. غير اننا لابد من مواجهة تلك الحقيقة المرة والتي عبر عنها اسلافنا منذ أمد بعيد (نحن قوم في مصيبة) خاصة بعد ان قذفتنا الاقدار على خطى ذلك الدرب الذي جربته قبائل وملل الوطن الجميل لبنان وانتهى بهم الى كل ذلك الخراب والتشرذم، بعد أكثر من ثمانية عقود من تجريب نسخ (التحاصص) تحول ذلك الوطن المترع بالاحلام البهية الى مرتع لصدقات وفرمانات دول الجوار ومابعد الجوار وماخلف البحار. كل من بقي معتصماً ببعض من حكمة، يدرك حقيقة؛ ان وراء كل تحاصص تمويل. وفي بلد مثل العراق ظل قابعاً في قعر سراديب صبيان العوجة لزمن غير قليل، دفع الاحرار من سكانه اقسى الفواتير واثقلها، فمنهم من سكن المقابر الجماعية أو المجهول ومنهم من تشرد في المنافي، ليجد نفسه بعد عودته منفياً في وطنه بعد ان اعاد المتحاصصون تقسيم رزق (البستان) ولن نكشف سراً عندما نتطرق الى تلك الشرائح التي هرولت الى اسلاب المنطقة الخضراء، بعد ان زقت طويلاً من ضرع المضايف الآمنة. والعجيب ان يتساءل البعض بعد كل هذا؛ عن سبب كل هذا الفشل المتواصل في الاداء الحكومي و الشعبي، الامني والمدني و.....؟ ولاجل انتزاع المبادرة ممن تسول له نفسه في الصاق دمغة التشاؤم واليأس على خربشاتنا المتواضعة هذه، نقول كما قال غرامشي يوماً عن (تشاؤم العقل وتفاؤل الارادة) بان كل هذه الفصول من الخيبة والاحباط يمكن لها ان تتحول الى معين لنا في تجاوز مستنقع مصائبنا، ان امتلكنا الجرأة والشجاعة للمواجهة بعيداً عن الاساليب الديماغوجية والشعبوية البائسة والتي لاتجيد سوى الاهازيج وتجميل الهزائم. في نهاية المطاف لابد لقبائل وملل هذا الوطن القديم، من ان تدرك مخاطر هذه الغيبوبة ونتائجها الوخيمة على وجودهم، ولاخيار امامهم سوى النهوض بمهمة اعادة تأسيس جديدة لاصطفافاتهم وتراصهم بعيداً عن حضائر التحاصص المزدهرة اليوم والنافقة غداً دون ريب.
أنا متحاصص... اذن أنا موجود
نشر في: 8 فبراير, 2010: 05:06 م