لم تكن الثورة الثقافية الكبرى التي اطلقها الزعيم الصيني ماو تسي تونغ بين الاعوام (1966-1976) في حقيقة نشأتها سوى انعكاس لتلك الصراعات المتفاقمة في الاوساط القيادية للحزب الشيوعي الحاكم، والمُتأرجحة مابين النزعة اليسارية المتطرفة والشكل المحافظ الداعي
لم تكن الثورة الثقافية الكبرى التي اطلقها الزعيم الصيني ماو تسي تونغ بين الاعوام (1966-1976) في حقيقة نشأتها سوى انعكاس لتلك الصراعات المتفاقمة في الاوساط القيادية للحزب الشيوعي الحاكم، والمُتأرجحة مابين النزعة اليسارية المتطرفة والشكل المحافظ الداعي لمفاهيم أكثر شمولية في طرق التعامل مع (حشود الشعب الكادح). وهكذا فقد تحولت هذه الفترة الزمنية لكابوس عاشه ملايين المواطنين الصينيين. فتشتتت أُسر تحت شعار إعادة التثقيف وسُرح موظفون بدعوى أنهم من (أتباع الطريق الرأسمالي). دخل البلد في حالة من الفوضى وسببت حملات التفتيش التي قام بها الحرس الاحمر وهم مجاميع من الشباب اليافعين الجامحين على وقع كلمات ماو رعبا كبيرا لمن شملهم مصطلح (البرجوازي التافه). ففقد الكثير حياتهم ونُكل بالتقريع والاهانة الآلاف من المثقفين والموظفين والفنانين. كانوا مثل اعصار تولى تحطيم كل المعالم الثقافية التي حددتها تعاليم القائد تونغ وسميت بالقدماء الأربعة ( الأعراف، الثقافة، العادات والأفكار القديمة). دفعت هذه الممارسات العديد من المواطنين لتدمير مقتنياتهم الادبية والفنية بغية حماية أنفسهم. فضاع عديد السجلات التاريخية واللوحات الفنية الكلاسيكية والاسطوانات والصور الدينية القديمة، وملايين الكتب المصنفة كرموز للادب والفن البرجوازي بما في ذلك الادب والفن الغربي، في اطار تعصب بروليتاري للهوية الوطنية الصينية الكادحة. لم يكن المخرج والروائي داي سيجيه بعيدا عن هذه الأجواء فجاءت روايته الاولى (بلزاك والخياطة الصينية الصغيرة) المكتوبة باللغة الفرنسية، والتي حولها الى فيلم بنفس العنوان كتوثيق شخصي رائع ضمن أفق الخيال الروائي لتلك الحقبة التاريخية الفريدة والغامضة للكثير ممن هم خارج الصين. مثل الشابين بطلي فيلمه حيث أُرسل داي ابن المدينة بعمر 17 سنة الى قرية جبلية نائية من اجل اعادة التثقيف، ويبدو هذا كمبرر معقول لتلك العاطفة التي غلبت على شكل الفيلم والمتوهجة بذكريات يصوغها سرد واع لمآل الامور. ويظهر ذلك واضحا من استخدام سيجيه لصوت الراوي العليم في سرد الاحداث والتعليق عليها باقتضاب. كما أنه سعى لمعالجة بصرية تجسد كلمات روايته وتنقل مشاعرها من خلال الاستعانة اخراجيا وهو يخوض تجربته السينمائية الرابعة بتنوع متوازن للقطات وحجومها مع حركة سلسة للكاميرا تنساب بهدوء في محاولة للامساك بالمشاهد وجره لسياق الحدث داخل بيئة السرد المكانية. زمنيا تبدأ القصة في العام 1971 حين يصل الشابان (لو) و (ما) الى قرية تقع في جبال العنقاء فيستقبلهما رئيسها الذي يمثل لجنة الحزب بالمنطقة ومعه اهلها بتشكك ثوري ودهشة وفضول كبير يعكس الفاصل الواسع الذي يعيشونه بعيدا عن هوامش المدينة. قرية جبلية لاصلة لها بمقومات الحضارة التي حملاها معهما. فاهلها لم يروا ساعة من قبل ولا آلة كمان التي تخيلوها لعبة. وما يعلمونه وجلهم لايعرف القراءة والكتابة لان الكتاب خارج نطاق النهج الماوي يمثل طريقا للافساد الرجعي. فكل شيء يخضع لمنطق البروليتاريا الثورية وعليه اعتبر رئيس القرية الدجاج طعاما برجوازيا يُفسد ثورية الفلاحين المعتمدة على الملفوف والذرة كطعام. كانت المغالاة جزءاً من تفاصيل العيش زمن الثورة الثقافية وهو ما وجد طريقه للحكاية بالفيلم من خلال الظهور المتكرر لأصوات مكبرات الصوت تصدح باستمرار بالشعارات الثورية وفي الاغاني والفعاليات الشعبية. أشارات كثيرة بثها داي في فيلمه تعكس أجواء تلك المرحلة ومنها تأليه ماو. أمر كرسته عديد المشاهد منها حين يسأل رئيس القرية عن اسم المعزوفة التي قدمها (ما) على الكمان فيخترع لها (لو) اسم ( موزارت يفكر في القائد ماو) فقط لكي ينفذ هو وصديقه بجلديهما. او مشهد مخاطرة رئيس القرية بحياته داخل انهيار المنجم ليُنقذ صورة الزعيم. لكن سيجيه وضع ثقل حكايته خلف تلك المشاعر الناشئة بين الشابين والفتاة اليافعة حفيدة خياط القرية العجوز. اسمياها الخياطة الصغيرة ولم يعودا بحاجة لمعرفة اسمها، ازدهرت ايامهما بوجودها، لتخبرهم ذات يوم ان احد الشباب الذين يجري اعادة تثقيفهم يمتلك حقيبة مليئة بالكتب الممنوعة، يسرقانها من منزله بمساعدتها ثم يخبئونها في كهف. ابتهج الشابان فقد وجدا كنزاً من الروايات الفرنسية والروسية والصينية، كتب لبلزاك وفلوبير ودويستوفسكي وغوغول وغيرهم. استطاع (لو) ابن طبيب الاسنان المصنف رجعيا لأنه عالج مرة قبل العام 1949 تشانغ كاي تشيك استمالة قلب الفتاة التي هامت بعشق روايات بلزاك. علماها القراءة والكتابة فتغيرت للابد بعد ان تردد في سماء حياتها صدى كلمات جدها العجوز (أحيانا يمكن لكتاب واحد ان يُغير حياتك للأبد). لم تكن قصة حقيبة الروايات سوى استيحاء خيالي روائي لتلك الحقيبة التي تحصل عليها داي نفسه أثناء فترة تأهيله، كان فيها عديد الكتب لسيغموند فرويد مترجمة للغة الصينية. ويتذكر سيجيه انه استخدمها لفهم وتحليل نفوس سكان القرية. لقد بدى جليا ان الكاتب المخرج كان يركز على أظهار الخطوات التي سبق بها الشابين اهل القرية بسبب ثقافتهما وأيضا لقراءة تلك الكتب. فحين يرسلهما رئيس القرية للمدينة المجاورة لمشاهدة فيلم ثوري كوري ومن ثم ليقصاه على أهل القرية، كانا يستعينان بتلك الشخصيات والاحداث التي ترد في الروايات الممنوعة. مثلت عملية اجهاض الفتاة بمساعدة (ما) بعد لحظة حب بلغت ذروتها الجسدية مع (لو) اختياراً درامياً موفقاً للتعبير عن انتهاء المرحلة الرومانسية لعالم الروايات العاطفية ضمن السرد، وإشعاراً رمزياً بأفول حقبة الخيال الثوري الجامح للثورة الثقافية. كانت الخياطة الصينية الصغيرة قد نضجت فكريا لتغدو امرأة وضحت أمامها الرؤية وبات مسار حياتها بين يديها بعد ان حررتها الثقافة. إخراجيا لم يقدر سيجيه على منحنا الكثير من الانثيال الرمزي للصورة السينمائية بسبب محدودية قدرته على التعبير البصري، وهو ما انعكس على الانطباعات المتكونة لدى المتلقي. كما ان النهاية بدت متعجلة ومثبطة أسقطت مسار السرد وهبطت بالمزاج العام للفيلم. بالمقابل نجح داي في رصد تفاصيل مهمة تؤطر العيش زمن الثورة الثقافية بمقاربة التكاثر المرعب للمحرمات ازاء تنوع أساليب خرقها والتلذذ في استكشاف حيوات اخرى من خلال عوالم قصية تمتلك براعة الكلمات في تشكيل فضاءات الدهشة ونوافذ الخيال، نجح كاتبها في نسج التشابك الوجودي للبشر على وقع نضوج الافكار وتبدلات المشاعر والأحاسيس.