الطبيعة الانطلوجية لماهية الشعر، انه فن للتعبير عن العالم الداخلي ، هو البوح الموثق بالحرف، وقبل ذلك الخيال المتفتح على جهات عدة يتغذى بما يحيط به من مؤثرات وإرهاصات .
لغز البدء ومخاض صيرورة فمن يمتلك رغبة الغوص في بحوره عليه ان يمتلك اداواته.
الطبيعة الانطلوجية لماهية الشعر، انه فن للتعبير عن العالم الداخلي ، هو البوح الموثق بالحرف، وقبل ذلك الخيال المتفتح على جهات عدة يتغذى بما يحيط به من مؤثرات وإرهاصات .
لغز البدء ومخاض صيرورة فمن يمتلك رغبة الغوص في بحوره عليه ان يمتلك اداواته. آليات للاشتغال به ومعه وأولها الموهبة وصقلها بالبحث والقراءة والتمعن وانثيالات لخزين معرفي وجمالي ، الثقافة المتولدة والعاكسة ضمن مؤثرات وحاجات ملحة لأسئلة تبحث عن اجابات غير مطلقة.
ان تقرأ اكثر مما تكتب لتغرس في الورقة البيضاء مدارات التخيل بانفتاح روحي على العالم المتغير المحيط بِنَا .
ففي لندن في اروقة بار قديم مخصص طابقه العلوي لمهمة الشعر وقراءته ونشره ، انطلقت أصوات نسائية ( إنكليزية) في تظاهرة شعرية لا تعتمد على أدوات التشبيه السائد في بعض النصوص العراقية النسائية الموغلة بمناداة الحبيب الغائب والمغرقة في التشبيه والبكائيات. تلمست هنا نصوصا لها وميض فكرة ومعنى يسبغ على النص تأملا وإيحاءات عدة.
بناء الفكرة والمعلومة هارموني معتمدا على التقطيع والايقاعات الداخلية التي تعتمد على التقابل والتصادم في النصوص الشعرية.
ومعهم المبدعة العراقية "انباء جاوي" ساهمت بقراءة نصين باللغة الانكليزية وبعثت لي ترجمتها للعربية ، محافظة على روح النص وإيقاع نبضه لانها مدركة لمناخه وأدوات النقل الى لغة اخرى بدون تعسف او خشونة.
ما يميز هذه الأصوات وطاقة اللغة الشعرية انها تركيز مكثف حيث الوعي يبرز في كلماتها فجاءت القصائد اقصر وأكثر إدامة، خلفيتها مطلقة لتفاصيل حياتية ومشاهد خيالية .
كانت هناك مجموعة من رجال ونساء والغالب هن النساء يمارسن الشعر طقوسا ويتبادلن اغناء تجاوب شخصية في الحقل الشعري كلها تصب في اشتغالات قصائد نثرية في مراجعة صارمة للنص عبر نقاشات جرت قبل القراءة الاخيرة وتقويم للذائقة وتبادل ثقافي ومعرفي عبر حضور جلسات شعرية والاختلاط مع العديد من الشعراء في مناطق عديدة في لندن وخارج لندن في المسار الشعري .
المجموعة هم من خريجي ورشة كتابة ( دروب الشعر) مع الشاعرة تمار يوسلوف، تحلقوا على شكل دائرة وكل واحد منهم ممسكا بأوراق اثيرة ربما الليلة ستكون قراءتهم معا لآخر مرة.
كنت ابحث عن صديقتي العراقية "انباء جاوي" ، كانت في طرف الحلقة ، عانقتها وخدر لذيذ لفني ، لدفء المكان واحدهم أشار الى الطاولة حيث نتاجاتهم الشعرية قد تم طبعها في كتيب انيق أسموه ( المسافر نحو الشمال).
وابتدأت الأمسية بتقديم جميل من قبل مسؤولة الورشة الشعرية، الشاعرة تمار يوسلوف، لم يكن تقديما مألوفا بل تأشير معمق لكل واحد من المساهمين ، ميزاته وأسلوبه وطريقة كتابته، كان عدد القراءات ثماني عشرة قصيدة توزعت بين الرمزية الساحرة والانطباعية والواقعية والسردية. حتى جاء دور صديقتي التي ساهمت باربعة نصوص شعرية وارسلت لي نصيين مترجمين الى العربية.
القصيدة الاولى لأنباء جاويد بعنوان / بغداد الدم :
بغداد تدفقت دماً منذ العباسيين وبعدهم
بغداد تشققت دماً قبل هولاكو المغولي وبعده
بغداد تنزّ دماً قبل السلاطين العثمانيين وبعدهم
بغداد تنضح دماً قبل الجنرال مود وبعده
بغداد تسرّب دماً قبل فيصل الاول وبعده
بغداد تنقط دماً قبل الزعيم قاسم وبعده
بغداد تفوح دماً قبل البعث وبعده
بغداد تذرف دماً قبل الحرب مع ايران وبعدها
بغداد تسيل دماً قبل حرب الخليج وبعدها
بغداد تسبح دماً قبل صدام وبعده
بغداد تتفجر دماً قبل الاحتلال وبعده
مازال ينبلج في بغداد الدم ضوء النهار
مازال نهر دجلة يشق بغداد الدم نصفين
مازال في بغداد الدم ناس تعيش
مازالت بغداد الدم ... دما
هذه القصيدة اختزال مدهش لتاريخ العراق الدموي وما زال بصيغة الجملة الفعلية لتحدث شداً لدى المتلقي .. قصيدة دائرية كانت أشبه بترتيل جنائزي تردد مقطعا مكرراً (ما زال في بغداد الدم ) ولكن اخترق هذا التردد الواحد ومضة عكسية التراجيدية بتفاؤل استثنائي ان هذا الشعب سيزهر رغم جراحه والدم.
الناس في بلادي يعيشون ويخترقون حدود الفجيعة.
هناك ميزة في النص الشعري الثاني الذي قراته ، انباء جاوي تشتغل عليها منذ مدة انها توظف اختصاصها العلمي/ خريجة فرع الجيولوجيا في كلية العلوم في بغداد وأكملت دراستها الدكتوراه في لندن، وظفت العلم في الشعر، منحى الخيال العلمي ولكن ليس المحلق بدون ارجل بل حقائق علمية تدخل في نسيج سرد شعري تعطيه نكهة من الحداثة الشعرية بتناول جديد، والنص الثاني لانباء بعنوان / العوالق :
ثلاثون يوماً ام ثلاثون عاماً
العالقة لاتعرف الرياضيات
عاشت في عمود ماء
مع رتل العوالق
السائر عمودياَ
هل كانت معجزة ام صدفة الطبيعة؟
العالقة عكس قومها تنجرف افقياً
العالقة وحيدة
عالم ازرق جديد
تنظر بزاوية 360
السمكة الكبيرة تأكل السمكة الصغيرة
الدلافين جاسوسات محترفات
حيتان "اوركا" تتلذذ بتعذيب الفقمة
قبل التهام لحمها، سمك القرش ابتسامته مخادعة
الاخطبوط منهمك يطور نظرية إغواء الإناث
يسيل لعاب حيتان "السبرم" وهي تراقب
الحبار الرخوي يتباهى بقابليته بتثبيت موقعه
قناديل البحر تتظاهر بالسباحة عكس التيار
العالقة الهشة فزعة
المحيط مزدحم بالكائنات المائية
الكل جائع، العالقة تحن لأيام رتل العوالق
تجرفها الأمواج الى اعلى اعلى اعلى
دمعة تتسرب من عين زجاجية
تذوب في الماء المالح
استعارات لشتى الكائنات البحرية من أصغرها ( العوالق) الى كبيرها( الحيتان ) لضخها بالرموز الدلالية في ترابط مفاهيم النص،
لعالمنا اليوم في بعض مواطن القبح( الجشع، الغدر ، الجبن، السادية، الاستئثار، القوة المتسلطة ) كلها تعيش بيننا فوق سطح الارض.
الاطلاع على ثقافة الغرب عبر لغة اخرى لا يلغي المحلية بل يثري الثقافة والإدراك المعرفي والحسي والشاعر الذي يكتب بلغة اخرى هو يمد جسرا وخصب وثراء لقيمة الثقافة العالمية ويغني مدارك المتلقي بالمعلومة والجمال وحينما يمارس ترجمة لنصوصه الى العربية هو يدرك سلفا قيمة نقل الأثر الأدبي من لغة الى اخرى عبر المحافظة على روح النص بدون تعسف او حرفية جامدة.
اغلب الشعراء الذين تمكنوا من دراسة لغة اجنبية تجدهم متميزين في دلالات الأفق الشعري المؤسس على معطى فلسفي ثري فالمقومات تتحول الى استعارات منفتحة وغير ميتة تدور في إطار اجترار الفكرة والاسلوب.
وكان مسك الختام التضامن مع الشاعر العراقي الكبير سرجون بولص حينما تحدثت انباء عن مقاطعة مصر لكتبه لكونه مسيحيا وقام الشاعر فيصل فاروق ( شاعر من سريلانكا ) يكتب باللغة الانكليزية بقراءة قصيدة للشاعر سرجون / الوليمة ترجمها الى الانكليزيّة ، الكاتب والشاعر سنان أنطوان :
اذا كنت سيداً، اعطني شيئاً
من الخير، قطرة من الدواء للمرضى
انت الذي تسمي نفسك سيداً، أَعْط لمن ساروا
في كل هذه الجنازات
للساردين في حلم الفجيعة
هم الذين تكفيهم ردا على صلاة الكفاف
غيمة تعبر في مساء المقلة
او جمجمة طفل خفيفة كقارب من ورق
من اجل هؤلاء
افرش ملاءة بيضاء
صفحة في كتاب لم يسّطره احد
مرق الأوجاع الصافي
شوربة الآلام بالثريد
جذور الأيام الممتدة
الى سرداب الفطر والطحالب
في ظلمة الرأس الدائخ
تحت القصف
تحت بسطالك الضخم
ودع اللحم يشوي، وجذع الخروف
يتقلب على نار الجشع الهادئة
حتى يحمر السيخ في يدك
ولتكن هذه الوليمة
جوفاء كالأبقار السبع
في حلم فرعون
دعها، دعها ... تكن هذه الوليمة .
حينما خرجت كانت اصواتهم تلوح لي على إيقاع مطر خفيف وفي قلبي انتشاء.