كنت أنوي إشراك القارئ في تطورات العمليات العسكرية في الموصل، التي مازالت تمثل الحدث الاول لدى العراقيين. فمتابعة سير العمليات، والدعوات لأبطالنا بالنصر، لا سيما مع حلول فصل الشتاء، مازالت حراراتها كما هي.
وبعد أن خصصتُ الموصل بمقالين، فإني لا أنوي البتة تخصيص مقال هذا الاسبوع للحديث عن "انتكاسة" حيّ السلام، ولا عن الجمود الذي يخيّم على مسرح العمليات، الذي أجبر وزير الدفاع الاميركي على القيام بزيارة خاطفة الى العراق، ودفع القيادة العليا للقوات المسلحة للإعلان عن إعادة النظر بالخطة العسكرية.
فالمعطيات الميدانية محبطة، رغم بطولات أبناء الجيش والحشد، مع مرور شهرين على انطلاق عمليات التحرير. كما أني لا أرغب بأن أُصنَّف على "الإعلام المعادي" لمجرد إثارتي بعض الاستفهامات هناك وهناك.
بالتأكيد لن أتوقف طويلا عند التعتيم الذي يغلف الملفّ الامني في بغداد وبعض المحافظات. فلم يعد خافياً حجم التكتم الذي تمارسه القيادات الأمنية إزاء عودة المفخخات الى الفلوجة، ولا عشرات القتلى ممن يسقطون جراء التفجيرات اليومية في العاصمة بغداد. فالضحايا مجرد أرقام يتداولها المسؤول وما على الصحفي أو المراقب سوى ترديدها بمنتهى "الببغاوية"، كما يفعل المحللون شبه الحكوميين. فانفجار 4 مفخخات وسط الفلوجة في غضون شهر واحد، وبعد بضعة أشهر على تحريرها، هو مجرد خرق بسيط لايستحق التوقف ما دام قادة العمليات ومسؤولو الامن ينعمون برضا القائد العام.
ولن أتساءل عن سرّ سكوت بعض الاطراف عن الخروق الامنية، مفخخات وعبوات، التي تشهدها بغداد بشكل يومي، ولن ألاحق السكوت غير المعهود لهذه الاطراف عن توجيه الانتقادات لخصومها السياسيين، وتحميلهم مسؤولية ذلك، رغم ان بعض الخروق استهدفت معاقل هذه الاطراف.
أتحدث اليوم عن تحويل المحافظات الجنوبية الى مسرح مفتوح لحفلة ردح تتبادل أدوارها أطراف سياسية عُرفت بخصومتها المزمنة، التي تضع استقرار البصرة وذي قار وميسان على كف عفريت.
فمنذ أُسبوع تعيش المحافظات الجنوبية توتراً اجتماعيا وأمنياً، أضاف همّاً آخر الى قائمة الهموم التي تتحملها هذه المدن جراء قوافل الشهداء من أبنائها، والفقر الذي يعاني منه شبابها، والنهب الممنهج الذي تتعرض له ثرواتها بواسطة الحكومة المركزية وحكوماتها المحلية.
مهما ساق أطراف التوتر من حجج وأعذار لتبرير مواقفهم، فإن المراقب المستقل يرى ان ما يشهده الجنوب هذه الايام مجرد دعاية انتخابية مبكرة، سمجة ولا تتصف بالمسؤولية أبدا.
كنت أتابع التظاهرات "الشعبية"، والبيانات المنددة من كلا الاطراف، بالتزامن مع متابعتي لشكاوى ممثلي البصرة الذين يطالبون بـ 13 ترليون دينار هي مستحقات المحافظة من البترودولار لفترة عامين.
فبموجب قانون المحافظات، الذي أقره البرلمان في 2014، ودخل حيز التنفيذ في آب 2015، فإن المحافظات النفطية تستحق 5 دولارات لكل برميل نفط يستخرج منها، بالاضافة الى 1 دولار لكل م3 من الغاز. قبل عامين، تم حشر هذه المادة بفعل ضغط الفريق السياسي المؤيد للحكومة الحالية، لكن الاخيرة اليوم تريد اعطاء 5% فقط من سعر البرميل بفعل تذبذب الاسعار. وتهدد الحكومة بالطعن ببنود موازنة 2017 لانها نصّت على النسبة الاولى، كما تنص على منح المحافظات 50% من إيرادات المنافذ.
اليوم لا تبدو البصرة متفائلة بالحصول على موازنتها الاعتيادية البالغة 336 مليار دينار للعام المقبل، اذ لا تتوقع الحصول على نصف هذا المبلغ حتى.
وفي خضم جدل الموازنة، أعلنت وزارة النفط فتح التقديم لإنشاء خط (البصرة- العقبة) الذي سينقل 2.2 مليون برميل يومياً من نفط الجنوب الى الاردن، بضمنها 150 ألف برميل يوميا ستخصص لتغذية مصفاة الزرقاء. وغني عن القول ان هذه المدينة تعتبر من بؤر التكفير والتطرف التي قدمت لنا زعيم تنظيم القاعدة الزرقاوي والعشرات من الانتحاريين منذ 2003. ويقاتل أبناء الجنوب بقايا هذا التطرف اليوم على تخوم الموصل والانبار.
لكنّ لا الحكومة المركزية ولا الوزارة المعنية لم تكلفا نفسيهما التشاور مع محافظات الدم والبترول، لإنجاز هذا المشروع "المسيّس"، بدلا من تطوير منشآتنا النفطية على الخليج.
كنت أتمنى لو أن الاطراف السياسية، التي نكأت جراح المحافظات الجنوبية بتحشيدها الحزبي المزعج، قامت بتوجيه أنصارها للمطالبة بحقوق مدنهم التي أضاعها ممثلوهم في البرلمان والمجالس المحلية، وبددته حكومة منشغلة بإرضاء محيطنا الإقليمي من "جيب البصرة" ودماء الجنوبيين.
عن "جيب" البصرة ودماء الجنوب
[post-views]
نشر في: 14 ديسمبر, 2016: 06:42 م