الترجمة ابداع وسطي، تقع بين العلم والفن، لكونها تعتمد على قواعد معترف بها ومنهج يشكل الدليل والمرشد فضلا عن انها كفن تعتمد الى حد كبير على ذائقة المترجم ومواهبه كفنان ومهاراتها اللغوية .ضلوعه في اللغتين التي لها والمترجم عنها. وبالدرجة ال
الترجمة ابداع وسطي، تقع بين العلم والفن، لكونها تعتمد على قواعد معترف بها ومنهج يشكل الدليل والمرشد فضلا عن انها كفن تعتمد الى حد كبير على ذائقة المترجم ومواهبه كفنان ومهاراتها اللغوية .ضلوعه في اللغتين التي لها والمترجم عنها. وبالدرجة الاولى حسه لطبيعة وظلالات اللغتين التي ينقل منها ويجسد العمل المترجم لها. ومن نافل القول الكلام اليوم عن ان الترجمة لن تكون حرفية ولا قاموسية بنقل كلمة بكلمة ، وان هناك متسعا وفضاءا للاجتهاد والتعبير، بشرط عدم خيانه العمل المترجم، لكن هذا لا يمنح الحق للمترجم بالتعامل بتعسف مع النص، رغم ان بعض الثقاة واساطين الكلمة يحبذون التضحية بالبلاغة وشاعرية ورقة الكلمة من اجل الحفاظ على المعنى الذي جهد الكاتب/ الاديب توصيله للمتلقي.
من هذه الزاوية تبدو ترجمة واحدة من أهم روايات الاديب الروسي ( السوفياتي) اندريه بلاتوتوف (1899 ـ 1951 ) للعربية " حفرة الاساس" غير مكافئة تماما للنص وعجزت عن الاقتراب اكثر من عالم الكاتب، وفي احدى الجوانب تتجاوزه، مما يجعل من المستحيل على القارئ العربي استلهام النص وابعاده والحكم عليه بدقة، اذا فهمنا ان العمل الادبي بناء يتشكل من عدة طبقات متلاحمة ومؤثرة ببعضها الاخر وغير قابلة للانفصال. اي التلاحم العضوي لمكونات الشكل والمضون. وبالدرجة الاولي نقل الاسلوب الذي هو في نهاية المطاف احالة للواقع الذي سعى بلاتونوف لتجسيده، والقيم الفكرية التي اختبئت وراء كواليس النص. فعلا ان بلاتونوف كروائي غير سهل. وتنطوي نصوصه على مستويات وابعاد متعددة، يوصلها للمتلقي بلغته الروائية الخاصة. اؤكد بلغته الخاصة. فهو يتجاوز اللغة المتعارف عليها ويخترق معايرها احيانا ويطعن بمقايس النحو وتركيبة الجمل، ربما لتدمير وهم عقلانية العالم ويوظف لذلك ايضا طرائق السرد والاسلوب للكشف عن ابعاد الشخصية ويخلق مركبات غريبه على سمع حامل اللغة الروسية، بهذا يخلق بلاتونوف الدهشة او بالاحرى الصدمة الفنية لدى قارئه، الذي يروح يكد مع النص لانعاشه واحياءه ويمنحه فكره وعقله للوصول الى التأويل للتمتع بالنص وسبر اغواره،.
ان ترجمة مثل هذه الاعمال تتطلب دراسة لغة وقاموس بلاتونوف بدقه قبل الشروع بترجمة عمله. واعتقد ان هذا شرطا وواجبا على كل مترجم لعمل ادبي. وباللغة الروسية دراسات لا تَعد ولا تحصى واطاريح كثيرة مكرسة حصرا للغة بلاتوف " الغرائبية" منذ ان اتيح نشر اعماله. ويوظف بلاتونوف حتى اسماء شخوص روايته للفصح عن المضمون. ولا تعتمد الترجمة عنوان الرواية بدقة مما قد يلقي الضباب امام فهم القارئ العربي لأبعاد الرواية ومغزاها، فهي تضع لها عنوان " الحفرة" وفي الحقيقة ان عنوانها الاصلي الذي تتجاهله الترجمة، ينطوي على دلالات فكرية ويشكل دليلا للقارئ لسبر اغوارها الايديولوجية. وبترجمة سليمة يكون " حفرة الأساس" او "الاساس"( المترجم يستخدم بالنص هذا التركيب). للعلم ان هناك كلمة بالروسية خاصة بالحفرة حصرا " ياما" بينما عنوان رواية بلاتونوف هو " كوتلَوفان" "حفرة الاساس" للمبنى.وهو عنوان مجازي يوحي به بلاتونوف الى "مبنى" النظام الاشتراكي / الشيوعي. ذلك المبنى الذي اريد له ان يكون مجمعا سكنيا لبروليتاريا المدينة القريبة، وايدلوجيا باحياءات بلاتونوف للبرولتياريا الاممية. " حجر الاساس" الذي لم يتم استكمال عليه ( في الرواية والواقع) المبنى المنشود. وعلى خلفية اعمال حفر الاساس يصور بلاتونوف ضحالة القوى التي تنهض بالبناء، وعدم كفائتها لبناء العالم الجديد، تلك القوى المطحونة تاريخيا الفقيرة روحيا وثقافيا، التي تؤدي عملها بدافع الخوف والتسخير، وتعيش في ظروف غير انسانية، ولاتمتلك شئ من مقدرات الحياة الكريمة، وتقودها نخبه غير نزيهة تسعى لضمان وضعها واماكنها الدافئة والسعى نحو مناصب جديد بطرق ملتوية وانتهازية، لذلك فان هذه القوى المتسلقة التي تتحين الظرف التاريخي دون ادراكهه ووعيه، تتحدث عن اشتراكية مبتذلة وفضة وتمارس باسمها سلطتها. على خلفية ذلك العالم السوداوي تظهر الطفلة ناستيا ( روسيا الجديدة)، التي تحتضنها البروليتاريا ولكنها تموت علي ايديها وتدفن هناك في " حفرة الاساس".
ان الصور الفنية التي يرسمها بلاتونوف بلغته المتألقة والمتفجرة عن انطلاق عملية التعاونيات الزراعية ( الكلخوزات والسفخوزات) تكشف عن الابعاد المأساوية لهذه العملية التي اغتصبت بصورة فظة الممتلكات الشخصية، حيث جرى تاميم تلك الممتلكات من دون قانون ولا تعويض ليسحق شرائح اجتماعية بطرق الحقد والانتقام والتشفي، وليس الانتقال من تشكيلة اجتماعية الى اخرى بطرق حضرية وسلمية. ان بلاتونوف مثل شولوخوف في الدون الهادئ وباسترناك في دكتور جيفاغو وغيرهم الكثير ومن بينهم سولجينيستين في ، يصورون بحيوية كيف سحقت طاحونة ثورة اكتوبر، كما يقال، الاخضر واليابس في طريقها، ونشعر من اعمالهم بالانين اللامنقطع لملاين البشر الذي راحوا ضحية لشعارات بناء العالم الجديد، الذي ظهر لحد الان بانه حلم طوباوي لايمكن تحقيقه على حساب الالام ودموع والام الابرياء. وضمن بلاتوف في روايته ابعاد فلسلفية بعيدة المدى ورؤية في سبل بناء عالم جديد للانسانية.
ويضبب على ذلك تغير الترجمة لكلمات الروائي الدلالية بكلمات عمومية مثلا ترجمة "العضو النشط" المفوض لبناء التعاونية الزراعية ب " المناضل" وكوخ المكتبة بالمكتبة العامة، والمعدات الجامدة ب " المعدات المتروكة،" والممل من رؤية المنظر " للفارس المتحذلق" الى " العطف على الجواد" ويغير بلفظ بعض اسماء الشخصيات رغم رمزيتها (تشيكيلين / شيكيلين) ويضيف مزوقات لفظيه من عندياته ويستخدم تراكيب عربية كيلشيهيه تخطاها حتى السرد العربي الحديث و لاتتناسب وروح لغة الكاتب مثل " اكل الدهر وشرب" واستعمال خاطئ لبعض كلمات العربية مثل " شنف اذانه" للتصنت العادي.... ومنذ الفقرة الاولى يضعنا المترجم امام عالم يختلف لحد ما عن العالم الذي سعى لخلقه بلاتونوف في روايته الرائعة. بيد ان كل تلك الملاحظات لا تقلل باي حال من الاحوال من اهمية الجهد الكبير للمترجم واضافته الجديدة المميزة للمكتبة العربية التي ستحتل مكانتها المناسبة.