(2-3)
قال فرويد: استوقفني في حديث المثل "ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل"، قولٌ لمرأة "قبح الله جمالاً لا نفع معه"، فما الجمال عند العرب في نهاية المطاف؟
قلت لفرويد: الجَمالُ هوالحُسْنُ في الخُلُقِ والخَلْقِ، جَمُلَ، ككرُمَ، فهوجَميلٌ. جَمُل الرجُل، بالضم، جَمَالاً، فهو جَمِيل وجُمَال وجُمَّال، والجُمَّال، بالضم والتشديد أَجمل من الجَمِيل. وجَمَّله أَي زَيَّنه. والتَّجَمُّل تَكَلُّف الجَمِيل. ومن الغريب تفسير ابن قتيبة لمفردة الجميل قوله "أصله من الجَمِيل وهو وَدَك الشَّحمِ المُذابِ. يراد أنَّ ماءَ السِّمَنِ يجري في وجهه".
قال فرويد: جميل. ولقد ذكّرني ذلك بمسامرتنا القديمة عن العلاقة بين (الجَّمَل) الحيوان و(الجَّمَال) والجميل. حيث لعل العرب، أوائل العرب على البسيطة، رأوا في الجَّمل الحيوان، بحكم علاقتهم الوثيقة به، الاكتمال المثاليّ لكلّ حيّ ولكل بنية شاخصة، ونموذجها الإجماليّ. بعبارة أخرى للاكتمال التام للمرئيّ، فطلعت من ذلك المعاني المرتبطة بالحروف الثلاثة (جيم ميم لام)، بما في ذلك مفهوم الجَّمال التجريدي لاحقاً والجميل، و(الجُملة) اللغوية ذات الاكتمال وكل ما يقع في نطاق مادة جيم ميم لام، كالإجمال التي تعبّر عن مفهوم البنية التجريدية المكتملة.
قلت لفرويد: يا للفرضية الحاسمة. هل أستطيع الموافقة على الفكرة رغم إغرائها؟
قال فرويد: ألم يقلْ طرفة بن العبد في معلقته عن ناقته (كَقَنْطَـرةِ الرُّوْمِـيِّ أَقْسَمَ رَبُّهَـا. لَتُكْتَنِفَـنْ حَتَى تُشَـادَ بِقَرْمَـدِ)، واضعا توازياً بين جماليات بنيتها وجمال عمارة الجسور الرومانية (قنطرة الروميّ). كأن المُعلقة، من طرف آخر، لا تتحدث عن ناقة، إنما عن ملكة جمال الكون. وفي نصّكم القرآني المُقدَّس إشارة لارتباط (الأنعام) بـ (الجَّمَال): (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جَمَال حين تريحون وحين تسرحون).
قلت لفرويد: في اللسان ما يعزز الفكرة من بعيد. فالجَمَل والناقة بمنزلة الرجل والمرأَة. وفي حديث عائشة، وسأَلتها امرأَة أَأُوَخِّذ جَمَلي؟ تريد زوجها أَي أَحبسه عن إِتيان النساء غيري، فكَنَتْ بالجَمَل عن الزَّوج لأَنه زوج الناقة. وجَمَّلَ الجَمَل أي عَزَله عن الطَّرُوقة.
قال فرويد: فلقد ربطتِ العبارةُ "قبح الله جمالاً لا نفع معه"، الكمالَ بالجمال.
قلتُ فرويد: وهذا شأن المفهوم العربي للجَّمَال والجميل، كأنه مفهوم أفلاطونيّ، حيث يربط أفلاطون الجمال بالخير (عالم المثل العليا)، ويؤدي إلى الخير وليس إلى الملذات الحسية. فالحق جميل بذاته، والشيءُ جميلٌ بذاته. ولعل تشديد الفكر الإسلاميّ على (جماليات الحقّ) – إذا صح التعبير – إزاء (قُبْح الباطل)، هي فكرة مستلهمة، مباشرة، أو متطابقة مع الأفلاطونية بطبعاتها المتعددة. فالحقّ يعني أيضاً في لغة العرب الإحكام والاتقان. ومن أسماء الله الحسنى "الحقّ" أي المتحقق وجوده أو الموجودة حقيقة. الحقّ في لغة العرب مرتبط بالمطلق كما يرتبط الجمال الإفلاطونيّ بالمطلق المتحقق بذاته. الجمال مرتبط بالحقيقة التي هي الوجه الآخر للخير.
قال فرويد : وهنا يختلف مفهوم الجمال قليلاً عن التعريف الأوروبيّ الذي يذهب إلى أن الجمال هو "خصّيصة من هو فيزيقياً جميلCaractère de ce qui est physiquement beau كبُعْدْ أوليّ، بوجود المنفعة أو عدمه. ولا أتحدث عما يلي ذلك من نظريات فكرية وتصوّرات فلسفية معقدة، لأن الأمر لا يتعلق بمواد لسان العرب.
لسان العرب حسب سيغموند فرويد: مفهوم الجمال
[post-views]
نشر في: 16 ديسمبر, 2016: 09:01 م