بدعوة من معهد غوته لحضور معرض فرانكفورت الدولي للكتاب وجدتني في مدينة ماينز. أنا التي طالما حلمت ببلد نيتشة وغوته وهاينريش هاينه وهيرمان هيسه وتوماس مان ، وكأنني اللحظة ألمح ( الجبل السحري) والمصح العتيد وراء نهر الماين وأسمع هانس كاستروب بطل رواية ( الجبل السحري ) لتوماس مان يردد:
(اننا نعيش هنا على مسافة لايستهان بها ، يجب الإقرار بذلك ، اننا نتمدد على ارتفاع خمسة آلاف قدم على كراسينا الطويلة ، اذا تمعنت في الامر ، فإن السرير - اعني الكرسي الطويل جعلني احرز تقدما في عشرة شهور ،ومنحني من الأفكار اكثر مما فعلت الطاحونة في البلد المسطح خلال سنوات عمري التي قضيتها هناك، هذه حقيقة لايمكن نكرانها ).
بينما كنت أفكر بمصح الجبل السحري الذي يكون الزمن فيه حرا وحيث تتوالى الايام والشهور والسنوات دون ان تترك علامة أو أثرا ، يمر الزمن دون عقبات أو حواجز ، وهكذا بغتة وجدت نفسي خارج الزمن أو في عمق مادته : أنا في مدينة ماينز على نهر الماين وكأنني انتقلت من بغداد إلى هنا على خفقة حلم ، عندما يكون المرء وحيدا وصامتا في غرفة غريبة مطلة على نهر تمخره السفن يرى الأشياء والحوادث بصورة مختلفة ، يراها على نحو أعمق وأشد كثافة ، إنه الحلم الذي أبحث عنه ، ذلك الحلم الذي تحدثت عنه الأم الى الفتى سنكلير المبهور بجمالها وحديثها في رواية "دميان" لهيرمان هيسه :
"يجب أن تعثر على حلمك ،وعندها يصبح الطريق سهلا ، ولكن ليس هناك حلم يدوم إلى الأبد ، كل حلم يتلوه حلم آخر ، وعلى المرء أن لايتعلق بحلم محدد.."
لا ، قلت بصوت مسموع : لالا، ثمة أحلام زائلة وأحلام مؤبدة ، وبوسعي شخصيا ان أحتفظ بحلمي الذي استولدته طوال سنوات عمري، ليس بوسع هيرمان هيسه ولا أبطاله انتزاع حلمي أبدا؛ فأنا انتمي له وهو ينتمي لي ..
مدينة ماينز ذات العمارة الغوطية والكلاسيكية تعد مدينة ولادة التنوير الاوروبي وكان اختيارها لإقامة عدد كبير من الوفود المشاركة في معرض الكتاب له مبرره الثقافي ؛ فهي المدينة التي طبع فيها غوتنبرغ أول كتاب في التاريخ ومنها انطلقت فكرة الطباعة الى مدن ألمانيا واوروبا كلها ويسرت انتشار الثقافة والتنوير بين الناس بعد أن كانت الكتب حكرا على طبقات مترفة ، أقام معنا في الفندق العتيق المطل على نهر الماين - الذي تعبره السفن وزوارق الصيد وكأننا في ميناء بحري - كتّابٌ عرب بينهم جمال الغيطاني ومحمود الورداني واللبنانية الراحلة مي غصوب مؤسسة دار الساقي وغيرهم.
ايقاع المدينة مدوخ : القطارات والسفن والأرواح المتعجلة ،الحرية مشروطة بالسرعة والوجود رهن ايقاع متوائم مع ديناميكية المدينة ، لكني أفشل في مواءمة ايقاعي مع ايقاع مدينة السفن والقطارات المسرعة التي كان علينا كل صباح أن نستقل أحدها الى فرانكفورت ونعود ليلا بعد انتهاء الفعاليات ونمر يوميا وسط مدينة ماينز بجامعة كبرى تحمل اسم ( يوهان غوتنبرغ ) تخليدا لذكراه وقد رافقنا اسم غوتنبرغ العظيم ذو الايقاع الجرماني خلال رحلتنا اليومية في القطار بين ماينز وفرانكفورت ونحن في ذهاب يؤججه الفضول ورجوع مثقل بتعب أربع عشرة ساعة من التجوال في أقسام المعرض والتعرف إلى قلب مدينة فرانكفورت وحضور الندوات المملة والاستعراضية لبعض الكاتبات والكتاب من نجوم المهرجانات المؤبدين.
مدينة ماينز: الطباعة والتنوير والكتاب
[post-views]
نشر في: 17 ديسمبر, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...