المكان والمكانية ، خاصيتان ارتبطتا مباشرة بالذاكرة ، لأنها نوع من المتعلق الذي يحتفي بتاريخ الفرد والجماعة . ولو قلبنا المعادلة التي نوّه عنها (جاستون باشلار) والقائلة في كون (المكانية في الأدب ؛ هي الصورة الفنية التي تذكّرنا أو تبعث فينا ذكريا
المكان والمكانية ، خاصيتان ارتبطتا مباشرة بالذاكرة ، لأنها نوع من المتعلق الذي يحتفي بتاريخ الفرد والجماعة . ولو قلبنا المعادلة التي نوّه عنها (جاستون باشلار) والقائلة في كون (المكانية في الأدب ؛ هي الصورة الفنية التي تذكّرنا أو تبعث فينا ذكريات بيت الطفولة. والعمل الأدبي حين يفقد المكانية ، فهو يفقد خصوصيته وأصالته) لتمكّنا أن نفتح باباً أوسع لمثل هذا المدار الذي انفتحت عليه المعرفة النقدية ، وأولته اهتمامها من قبل النقّاد، وعلى أولويتهم الناقد ( ياسين النصّير) عبر مؤلفاته التي خصت المكان .
وبذلك يمكننا القول أن الإنسان إذا افتقد المكانية ، ونقصد بها الحس المكاني ، فإنه كالأدب ينتبذ له مجالاً لا معنى له في الحياة ، بسب افتقاد التاريخ الشخصي ، بل السري والمعلن من مدوّنته الشفاهية والخطية . باعتباره أنموذج العمل الأدبي ، وكاتب النص الأدبي يبحث في تاريخ الفرد والجماعة ، وبذلك فهو يبحث في سجّل الشخصيات لتمييز خصوصياتهم وتباينهم . إن المكان هو الحيّز الأكثر تأثيراً في الإنسان ، ويشاركه في هذا الحيوات الأخرى التي تختار وتبني أمكنتها ـ، لأنها من يصون وجودها ويحافظ على النوع . وعند الإنسان يكون الأكثر تأثيراً في تنمية الخيال وتحفيزه للابتكار كما فعل الإنسان الأول ، فالجدار في الكهف مكان تم تزيينه بالرسوم ، باعتبارها سرديات الإنسان ؛ المبتكر الأول في حياته لملء الفراغات الزمنية في حياة افراد الأسرة . من ذلك فهي ذكريات الطفولة المغادَرة بفعل تراكم الزمن والحُقَب والعصور . فالذي يبقى هو الزمن المكثف وطبيعة الألفة التي كيّفت المكان لتسرية حياتها حسب ( باشلار )
إن التأكيد على حيوية المكان ، كوّنه متعلق المدوّنة بالنسبة للإنسان . يمنحنا قوة التعامل معه ، وخصوصية العمل على ابتكار الأمكنة والبحث عن أصالتها وكينونتها المفقودة بسبب ما داهمها من طارئ ، لا يمثل تأريخها ، بقدر ما يُلغي منطقه وتسلسل تطوره ، الذي يستمد صيرورته من مبتكرات عقل الإنسان على مر الأزمنة . فالمكان ( ما يُثير الخيال ، وما يُعيد صورة الأمكنة الأولى ؛ الغرفة ، السطح ، الزاوية ، السرير الجدار ) ونُضيف ؛ العُش ، القوقعة . وما هنالك من أمكنة سايرت وجود حيوات الوجود منذ الأزل ، فهي تتوّزع بين أمكنة أليفة وأخرى معادية . وقد صنّف ( باشلار) وسواه الأمكنة على أساس علاقتها بالإنسان أساساً ، فكان لها ما ذكرناه أعلاه فهي أمكنة البهجة كـ (الحدائق والمتنزهات ، القاعات ودور العرض ، المدارس والجامعات والمعاهد ، دور العبادة ، المزارات والأضرحة ثم الرهبة كـ (السجون ، الصحراء الأقبية والسراديب) وأمكنة مقدسة مثل (الأبراج للعبادة والمراقبة ، الزقورات ، المآذن ،الجبال العليّات ، السهول) واستثنائية مثل ،(الكهوف ، الوديان ، القواقع ، دور البغاء ... الخ )
لذا نؤكد على علاقة المكان بأحلام النوم واليقظة . وهما فعلان مشروعان للاقتراب من المفتقد من الزمن الفائت . والمقياس في هذا ذاتي بحت . بمعنى ثمة أمكنة مفتقدة وأخرى حاضرة بسبب ما تمنحه صورها من لذّة ، وغيرها مطموسة بسبب قسوتها وشدّة وقعها على حياة الإنسان . فالاستعادة مرهونة بخصوصيتها أساساً . ففي أحلام اليقظة ( تتداخل مختلف البيوت التي تركناها ، ونحتفظ بكنوز الأيام السالفة ) وهي من مكوّنات الخيال عند الإنسان . بمعنى تتعلق بشعرية المكان عبر جماليته وصيرورته الجاذبة. فالانفعال الذي نمارسه بالاستعادة ، وهو نوع من التداول الشعري ، لأنه مرتبط بالحس الذاتي عند الإنسان . نحن نمارس فعل الشعر ، لأن استذكار المكان واستعادة صورته ، يعني التعامل مع صوّره المنتخبة ، الصوّر التي تبعث في النفس الراحة واللذّة . إننا نعمل على تهدئة الذات من تراكم غبار الأزمنة السلبية . وهذه الاستعادة تبرز حين يتغيّر المكان ، ويبتعد الإنسان عن مكانه بسبب الهجرة القسرية . حينها لا يتصدر الحلم سوى بيت الطفولة ، تخترق صورته كل الأمكنة المتغيرة في حياته للوصول إلى أصالة المكان الأول . ويعني هذا حدوث الطمأنينة من خلال الركون إلى الجذر الأول . إنه تعامل قد تعدى إلى خارج مجال الحس الإنساني ، حيث يتعداه إلى الإحساس الفكري ، لأنه ــ مكان الحلم ــ يُبعد الأفكار السوداوية ، ويبعث في النفس الاستقرار الفكري ، ولو إلى حين من الزمن الخيالي . فاللذة في حلم اليقظة مثلاً ؛ هي استعادة تُبعد شبح الوحدة والتوحش في المكان غير المرغوب فيه كالسجن مثلاً . لذلك تعتبر نوعا من تجاوز الأزمنة إلى زمن بعيد .
من كل هذا نرى أن استعادة صورة المكان الأول ، وتصوّر الخيال للمكان المرتقب عبر أحلام اليقظة ــ التمّني ــ هي نوع من الفعاليات التي تُعيد للإنسان التوازن من جهة ، ورد الاعتبار من جهة أخرى . فالمكان ومن هذه الاعتبارات يمتلك حيوية تدفع الإنسان للبحث عن صيرورة ، لاسيّما الإنسان الباحث والدارس في مضمار الثقافة والمعرفة . لذا نرى إن تعدد الكتابة وتنوعها عن المكان ، دافعها تنشيط، المخيال في ما هو أساسي ، باعتبار المكان وحدة أساسية وحاضنة للبنى والأفكار والرؤى والشخوص . وهذا التنوع خص البنية الأساسية له . بمعنى قراءته على وفق الرؤى . من هذا انشطرت القراءة في هذا الكتاب إلى منحيين ؛ الأول خص التنظير ، واستقراء تأثيرات المكان ، وتنوّعه ، وعلاقة الشخوص من الناحية الدلالية معه . لذا فهي قراءة استنتاجيه اعتمدت الرؤى الحاصلة من خلال المراقبة والاستنتاج عن هذا أو ذاك . أما القراءة الثانية ؛ فهي رصد الكتابة من المكان وعنه . وهي تجارب ميدانية ، حررها أدباء من شعراء وقاصين وروائيين . والفرق بين الاثنين واضح من التوصيف ، في كون الأولى تخص النتائج ودراستها على أنها مسلمات تنتج رؤى نقدية ــ بحثية، والثانية تخص الرؤى المستنبتة من المكان . الأولى تعتمد المراقبة والاستعانة بالمعرفة العامّة ، والأخرى تنضوي تحت صفة المعايشة . ففي الأولى لدينا أمثلة من كتابات ( باشلار ، وياسين النصيّر، أسعد الأسدي ) وفي الثانية نجدها في كتابات ( محمد خضير، لؤي حمزة عباس ، جواد الحطاب ) وغيرهم .
إن كل ما حصل من حراك معرفي ميداني يُفيد المتلقي من جوانب كثيرة ، لكنها بالنسبة لكاتب النص ، تـُسهم في تحريك أداته الحفرية ، ذاهبا ً إلى الأمكنة التي عاش فيها ، أو حسب ما ذكر (النصيّر) ، التعلق بالأساسيات في النظرة إلى المكان ، والابتعاد عن الوعي العالي ، ونعني به المديني الغالب على الريفي ، أو العكس في النص . أي الابتعاد عن الازدواجية الرؤيوية في النص . فالمكان وحسب رؤى الكُتّاب ينتج وعياً يتدرج ضمن طبيعة المواقف في الأزمنة وتحوّلها إلى بنية سياسية متخفية ضمن بنية اجتماعية ، لاسيّما حالات التمرد على الحاكم والمحتل ، وبهذا تبرز علاقة واضحة بين المكان وتشكل الأفكار من خلال ممارسات يومية هي ردود أفعال لضغوطات الحاكم . كما حدث من تمردات ذات طابع ديني في مدينة الثورة في بغداد وغيرها من المناطق على الحواف من المدينة .هذه العلاقات والمنتجات السلوكية ذات الطابع السياسي الاجتماعي تتجاوب صعوداً كلما تقدم الزمن ، فهي نتيجة تجاوب المكان مع عناصر الزمان ، لإنتاج رؤى ثورية ذان طابع شعبي.