اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تحقيقات > دروب البساتين.. خضراء ذكرياتها بطعم شقوق الطين

دروب البساتين.. خضراء ذكرياتها بطعم شقوق الطين

نشر في: 21 ديسمبر, 2016: 12:01 ص

مثل دورق محمّل بالماء تهطل الذكريات ما ان تلوح صورة احد تلك الدروب التي تعطر الفضاء بالقدّاح واريج الشبّوي، وهي تهب الحياة ثمرات الخير الملونة بالطبيعة وشذاها، المختلط برذاذ موجات الأنهار الموغلة في عمق الجمال، هكذا تندلق الذكريات حين تلوح صورة بساتي

مثل دورق محمّل بالماء تهطل الذكريات ما ان تلوح صورة احد تلك الدروب التي تعطر الفضاء بالقدّاح واريج الشبّوي، وهي تهب الحياة ثمرات الخير الملونة بالطبيعة وشذاها، المختلط برذاذ موجات الأنهار الموغلة في عمق الجمال، هكذا تندلق الذكريات حين تلوح صورة بساتين المدينة بتنوعاتها الثمرية، فتلك بساتين رمان شهربانية، وهذه بساتين برتقال بعقوبية، بهرزية، هويدرية، وهناك بساتين العبّارة ونخيلها، الذي يجس النظر المتقطع على جانبي الشارع المسمى طريق العبّارة القديمة الذي يرمي بسالكيه في حوض من بساتين مزدهرة تصل مشارف شهربان ممتدة على طوال 50 كم خضراء، تخترقه الدروب الموصلة الى الجنة كما يقول العم كاظم ..

دروب بلون الماء
في دروب البساتين، الضاجّة بهديل الحمائم وزقزقة العصافير، وتشابك الأغصان، التي ترسم بظلها لوحة تشابك لخطو الحياة، المثيرة للدهشة والفن، وسرقة العين لذلك الجمال، المترامي الأطراف على جداول الماء المتفرعة وكأنها شبكة شرايين نقل الدم، نهر واحد تفرع الى انهار، وجداول وترع، نهر اخذ على عاتقه ارواء نخيل، اشجار، رمان، وحمضيات، واعناب. ديالى، هكذا اطلق عليه منذ جريانه الاول الذي رسم على ضفتيه الخضراء طبيعة موردة ومثمرة. في كل تلك الدورب ثمة (نهير) صغير تعلّم به اولاد البستاني السباحة، وتشاجروا على الغصن المتدلي من شجرة التوت، (نهير) يخترق بستان العم كاظم ليتفرع الى جداول سقي. على مقربة من أمتاره الاولى يقف العم كاظم (بمسحاته) يبعد الحشائش والأدغال عن سرى الماء، ويلاطف سلحفاة صغيرة (ركة) بمسحاته الضالعة بالقدم حيث يبلغ عمرها ،كما قال ذات حديث، قرابة الـ 25 عاما.

سعف النخيل سياج
ثمة درب اقتطع من بستانين يمتد لمسافة 100 متر حيث يفتح فناء على بستان آخر يتوسط سياجه باب خشبي كبير تعلوه الزخارف. على ميمنته ثمة سياج من سعف النخيل يقابله اخر على الجهة اليسرى، يتوسطه باب من جذوع النخل، ربط بإحكام بأغصان الرمان، هذا الدريب الذي يسميه العم كاظم (المكتبة) اذ يتمتع بهدوء قلما تجده في دروب البساتين الضاجة بالحركة، حيث استغله اولاد البستاني وزملاؤهم للدراسة والمذاكرة ايام الامتحانات، فقد تخرج المئات منهم بدرجات ممتازة وعالية فمنهم الطبيب والمهندس والمدرِّس والمحامي والضابط والقانوني.

درب الباشا وأعياد نوروز
يشترك السعف في كل الدروب، فقد اتخدته القبرات مخبأ لتضليل حصى الصبيان التي تلاحقها، مثلما يسهل اختراقه من قبل ابن آوى وهو يطارد فرائسه عبر البساتين المتلاصقة، التي تفصلها اسيجة من السعف ايضا او (قمريات) الأعناب التي تتشارك بعض البساتين فيها. يشير العم كاظم الى درب اخر اسماه بـ (درب الباشا) والذي شق من بساتين عدة ليكون ممراً للباشا نحو نهر ديالى، اذ يوصف باحد الدروب الموصلة الى الجنّة، فكل تلك البساتين دون اسيجة يفصلها (الدرب) فقط وثمة باب كبير يملك كل بستاني مفتاحاً له. يقول عنه البستاني الحاج مزهر: في ايام الربيع واعياد نوروز تضج هذه الدروب بالعوائل الباحثة عن الراحة وقضاء اوقات استجمام وتمتع بالطبيعة، وقد اعتدنا منذ سنين على فتح باب (الدرب) امام الناس المحتلفة والقادم من شتى انحاء ديالى واقربائهم ومعارفهم من العاصمة بغداد.

زنابيل الفاكهة المعتّقة
درب المحطة من دروب البساتين الشهيرة في شهربان في مثل هكذا ايام، كان كل شيء فيه اخضر بلون الحياة، يبدأ الدرب من نهاية السوق ويمر بمرقد الإمام سافر ابن موسى الكاظم ،حسبما كتب على مرقده، اذ يتوسط احد البساتين حيث كانت العوائل الشهربانية تقضي فيه اجمل الأماسي متوادّة متعايشة، كما انه لم يخلُ من لقاءات الحب بين ابناء وبنات المحلة، يمتد الدرب مخترقاً البساتين حتى يصل محطة القطار. كانت المدينة بلون الحياة والجمال. لكل ابناء المدينة ذكريات مفعمة بهذا الدرب، الطلاب والطالبات، العمال الشباب منهم و(كبار السن) عمال البساتين والحدائق ابناء القرى وزيارتهم اليومية للمدينة وهم يحملون زنابيل الفاكهة المعتّقة بماء مهروت وديالى والشاخة، رائحة الخمر التي تفوح من كل البساتين مع نسمات الهواء المسائية، سكارى المدينة وهم يبحثون عن اصدقائهم. لم يكن احد منهم يحمل (مزّته) كانت أشجار البرتقال والرمان والمشمش والآلو والعنب تنحو مع كل كأس. تتفرع من هذا الدرب دروب عدة توصل الى البساتين ونهر ديالى ومهروت.

أسيجة الطين والعاقول
تتنوع الدروب وابواب البساتين والأسيجة المؤطرة لها، والتي غالبا ماتكون لمعرفة حدود البستان وليس للحماية، فالكثير منها مشيّدة من الطين تعلوها بعض نباتات (العاقول) الياسبة والتي لايكلف تكسيرها جهدا، ورغم كل ذلك نادرا ما نسمع عن سرقة بستان خاصة في اوقات الجني. (درب المحلة) هكذا سمي من قبل سكنته، اذ يعد (طريقا) مختصرة من القرية نحو المدينة مرورا بمحلة (الحرية) التي تعد بوابة السوق الكبير. يصفه مهند بـ (درب المحنة) اذ كان يقف احد اصحاب البساتين امام طاولة يضع فيها من ثمرات الموسم يقدمها لكل من يمر بالشارع الرئيسي حتى ان بعض العوائل المتعففة التي كانت تقصده بين فترة واخرى.

المتساقط يفوق المقطوف
يدور عدد من الصبيان في دروب البساتين يجمعون ما يتساقط من اشجار (التكي) التوت، او (النبق) فكان المتساقط منها يفوق المجني، فلكل بستاني شجرة وافرة الضلال تترك لعابري السبيل او القاصدين المدينة، او ممن تضيق بهم سبل العيش. العم مزهر ترك شجرة (توت) معمرة متدلية الاغصان والاثمار، لمثل هكذا حالات، اذ يقصده الصبيان لحمل ما يمكنهم لعوائلهم، ومنهم من يقصد سوق البقالين لبيعه والتبضع بثمنه ما تحتاجه عائلته، ومنهم من يكتفي بالأكل حد الشبع كما يقول اسعد الذي طالما كان يجمع المتساقط من (التوت) ويبيعه ليشترى بثمنه حبوبا لطيوره التي يهب في كل موسم طيراً منها لأحفاد العم مزهر عرفاناً لشجرة التوت الأحمر.

بائع السعف يطوف الدروب
امتهن الكثير من الاشخاص بيع السعف ونقله من البساتين الى الأحياء والمناطق السكنية، حيث يستخدم في تنّور الطين، كان هؤلاء الاشخاص يعرفون كل دروب البساتين الضيقة والواسعة التي كانت المفضلة لديهم، اذ تتيح المجال لاستدارة العربة التي غالبا مايسحبها (حصان) فيما تتكفل سيارات الحمل الصغيرة والمتوسطة بدخول الدروب الضيقة، اذ يعتمد الامر على مهارة السائق في ارجاع سيارته المحملة (بسعف) النخيل اليابسة، وبعض اكياس الثمر وخاصة التمور في موسم (الطوش) وجني المتساقط من اعذاق النخيل. فيما تضم اكياس اخرى ثمرات البرتقال (الطوش) اي المتساقط من الشجرة او الفاكهة الصيفية التي غالبا ما يرافق جنيها (تكريب) النخيل ونزع السعف اليابس، الذي يقسم هو الآخر الى صنفين احدهما (بالكرب) وهو المفضل وآخر بدونه يستخدم في تنور الخبز.

السير في دروب الأحلام
السير في دروب البساتين لا يشبه إلا الأحلام، هكذا وصفه الأديب الراحل مؤيد سامي يوم حضر مع جمع من الأدباء والمثقفين والسياسيين لحضور الاحتفال الذي اقامه جمع من مثقفي شهربان بمناسبة ذكرى تاسيس الحزب الشيوعي العراقي في احد بساتين المدينة المشهورة يوم كانت المحبة والجمال والسلام تجمعهم من كل اطرافه. لم يكن وصف مؤيد بالاعتباطي فهو ابن تلك الدروب الموصلة الى البساتين الرحبة وجلسات الاحتفاء والاحتفال التي يعلو فيها الشعر والغناء.   

صانعة للحياة واللذة
ذات احتفاء بالفقيد المسرحي محيي الدين زنكنة استمر لساعة متأخرة من المساء الذي كان يفقد بريقه مع قرب نزول الشمس اذ كان عليه العودة لبعقوبة حيث مخاطر الطريق والإرهاب الذي اخذ يتغلغل في المدينة منطلقا من تلك الدروب التي تحولت الى شوارع قتال. قال ابو آزاد وهذا ما يحب ان ينادى بها: دروب البساتين في كل ارجاء ديالى هي دروب صانعة للذة والحياة، دروب مبتسمة رغم حرارة الصيف وبرودة الشتاء، دروب تمد السائر فيها بشحنات من الحنان، دروب معتقة بكل الذكريات والحكايا التي تحتاج لذاكرة كبرى تعيد صياغتها وكتاباتها، فذات يوم قد تغيب هذه الدروب ويقتل الجمال فيها.

وتحققت النبوءة باغتيال البساتين
ليست سوى ايام وربما اسابيع حتى تحولت دروب القراءة، والراحة، والاستجمام، الى شوارع قتل واختطاف، سرقة البساتين، اغتيلت الحمائم والعصافير، أعدمت الاشجار، ومنها ما انتحر حين دفنت تحتها جثة، تحولت (اكوام الرمان المكوخ) الى مقابر جماعية لأبرياء، طردت الذكريات، وحل البارود والدخان بدل القداح وشذى الشبوي، انفرط الناس مثلما تنفرط حبات الرمان في وعاء احمر، تترك كل حبة اثرها. انتهكت حرمة البساتين وأحرق بعضها، وأغرق آخر، وصودر ما تبقى منها، أعشاش الطيور سكنتها الغربان، فيما تحول درب الباشا الى درب الصد ما رد، وتحولت بداية دروب اخرى مكاناً مفضلاً لرمي الجثث المجهولة التي تعبث بها الكلاب الضالة.

الباص الخشبي يترك أثره في الدروب
كان الوصول الى بعض القرى او القصبات يمر عبر تلك الدروب، التي يقف بعض ملاكها وفلاحيها، بانتظار الباص الخشبي، الصاعد الى المدينة، حيث ينقل البعض منهم محاصيل بستانه الى اسواقها ومحالها، خاصة ايام سقوط بعض المحاصيل وبشكل خاص التمور والتوت والمشمش، حيث كانت سلال الخوص تعتلي الباص الخشبي، الذي يترك آثار اطاراته في الدروب، التي يسير فوقها الصبيان بدراجاتهم الهوائية(البيسكلات) بشكل متواز، مقتفين الأثر حتى نهاية الشارع الترابي. ابو عباس (صاعود نخل) غالبا ما يتخذ من سقف الباص خير مكان للتمدد مع (التبلية) أداة صعود النخل، اذ كان يعوض رطوبة البستان بهواء الباص المسائي الصاعد صوب المدينة والمحمل بالفاكهة والأرطاب. فيما يتكفل باص الصباح بنقل الدجاج والبيض ومنتجات الألبان الاخرى.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. وجود المقدادي

    عاش قلمك الرائع لقد اغدقت علينا بالجمال حتى فاضت المدامع... أدعو العلي القدير أن يعيد أيام الخير الى عراقنا الخصيب!

يحدث الآن

بسبب الحروب.. الأمن الغذائي العالمي على حافة الهاوية

اعتقال "داعشي" في العامرية

التخطيط تبين أنواع المسافرين العراقيين وتؤكد: من الصعب شمول "الدائميين" منهم بتعداد 2024

هروب امرأة من سجن الاصلاح في السليمانية

وفاة نائب عراقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

لا ينبغي ان يحلق في سمائها غير طيور الحباري ..الإرهاب والمخدرات يهددان أمن الحدود العراقية السعودية
تحقيقات

لا ينبغي ان يحلق في سمائها غير طيور الحباري ..الإرهاب والمخدرات يهددان أمن الحدود العراقية السعودية

 اياد عطية الخالدي تمتد الحدود السعودية العراقية على مسافة 814 كم، غالبيتها مناطق صحراوية منبسطة، لكنها في الواقع مثلت، ولم تزل، مصدر قلق كبيراً للبلدين، فلطالما انعكس واقعها بشكل مباشر على الأمن والاستقرار...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram