تنشغل الأوساط السياسيّة بجدل ساخن حول مشروع "التسوية" منذ أن كشفنا عن خطوطه العامة في (المدى)، عدد 3771 الصادر في 31 تشرين الاول الماضي، ثم عدنا لنشر نسخة مسرّبة منه بتاريخ 5 تشرين الثاني.
إن شهرين من السجال السياسي الذي امتد الى عواصم إقليمية، يثبت للمراقب ان النوايا الحسنة، إن وجدت في عالم السياسة، لا تكفي لإنجاح هكذا مشاريع حساسة تصاب بالتلعثم أمام أول سؤال يطرح على أطرافها. كما يثبت ان شيطان التفاصيل سيعكر حماسة بعض الاطراف.
فمنذ أن كُشف النقاب عن "التسوية" والنقاش ينحصر بين طرفين لا ثالث لهما. الاول التحالف الوطني، برئاسة السيد عمار الحكيم، الذي يفترض انه يمثل الجانب الشيعي، مقابل قيادات تحالف القوى الممثل السياسي المفترض للسُّنة العرب في العراق.
لقد ادى الانشغال الكردي بأزماته الداخلية، الى إبعاد هذا المكون عن الانخراط بهذا السجال "التسووي"، رغم الحاجة الملحة لمشاركته في هذا الشأن. فكل معادلة لن يكتب لها النجاح من دون إشراك الجانب الكردي.
ورغم اللغة المنفتحة على جميع الاطياف العراقية، إلا ان المكونات القومية والدينية تنفي ان تكون طرفاً في هذه "الطبخة" التي استغرقت 9 أشهر، داخل كواليس التحالف الشيعي، لكي تصل الى مرحلة النضوج. فالمسيحيون والإيزديون يتحدثون عن تهميش متعمد تمارسه المكونات الكبرى ضدهم، رغم انهم المعني الاول بـ"التسوية" نظراً لحجم الدمار والخسائر الذي لحق بأبنائهم وبمدنهم منذ 2003 وحتى تاريخ سقوط الموصل. إنهم يقولون إن التسوية "منولوج" لايفهمه سوى قادة السُّنة والشيعة فحسب.
في موازاة ذلك، لا تبدو قيادة التحالف الوطني مهتمّة بأخذ رأي الاقليات الشيعية كالتركمان والكرد الفيلية والشبك. وهي مكونات دفعت ثمناً باهظاً في عراق صدام، وثمنا أقسى جراء حكم الشيعة للعراق الجديد.
وقبل ذلك، فلم نسمع رأياً واضحاً للمرجع السيستاني حول "التسوية"، وهو صاحب الكلمة الفصل في القرار الشيعي. واذا ما استحضرنا الموقف "المتحفظ" لزعيم التيار الصدري من المبادرة، فإننا سنتأكد حجم المأزق الذي تواجهه التسوية في الوسط الشيعي، المنشغل بفاتورة الحرب على داعش، والفقر وسوء الإدارة اللذين تتحمل أطراف التحالف الوطني مسؤوليته.
القوى السُّنية ليست أفضل حالاً من نظيرتها الشيعية. فالانقسامات والصراع المزمن على السلطة وزعامة الطائفة يمثل "كلمة السر" في المشهد السني. هذا الانقسام السني يتوقع له أن يحول دون اشراك القوى السنية التي تؤمن بوحدة البلاد، وبأهمية تقوية الدولة، وإبعاد القرار السني عن الاصطفافات الاقليمية. وهي ذات القوى التي قاتلت داعش في ديالى وصلاح الدين، والانبار.
إن التحديات التي تواجه مشروع "التسوية"، هي ذاتها التي اجهضت العشرات من مبادرات المصالحة التي رعتها الامم المتحدة وشاركت في طبخها اطراف اقليمية.
فالاساس الإثنو طائفي الذي ارتكز عليه مشروع التسوية، يمنع إخراج العراق من دوامته المتواصلة منذ 2003. لأن هذا الاساس، بكل بساطة، سيصطدم بسؤال الأغلبية الأقلية المكوناتية. فهل سيرضى السنة اعتبار الشيعة أغلبية ديموغرافية في البلاد، أم هل يرضى الشيعة بأن تتم مساواتهم بالسنة، او القبول بقضم تمثيلهم السياسي او الاجتماعي؟!
هذه أزمة حقيقية وجوهرية تكشفت بشكل واضح خلال طرح قانون "الحشد"، والخلاف الذي جرى بين التحالف الوطني واتحاد القوى على نسبة الأخير من هذا التشكيل العسكري.
طبعاً لن أتحدث عن الشرعية السياسية التي يحظى بها أطراف "التسوية" بالاتكاء على نظام انتخابي معطوب، سبق لهذه الاطراف التشكيك بعدالته وحقيقة نتائجه.
وبالاضافة الى ما مرّ، فإن مشروع "التسوية" يواجه أزمة حقيقية تتمثل باحتكار التمثيل الابدي للسُّنة والشيعة من قبل واجهات سياسية لا تمثل سوى أقلية في محيطها الاجتماعي. فلماذا يعتقد عرّابو التسوية بقدرية تمثيلهم لطوائفهم؟ ولماذا يفترض هؤلاء ان تصدّرهم للمشهد السياسي أمر مفروغ منه؟! والاغرب انهم لا يكلفون انفسهم حتى للحديث عن استفتاء العراقيين حول هواجسهم التي حولوها الى مشاريع وطنية وتاريخية رغما عن 37 مليون عراقي.
شخصياً لا أهتم لوساطات ممثل الأمم المتحدة، فهناك اطراف تريد حشد الإنجازات في سيرتها الذاتية، ولا أهتم بالتدخلات الإقليمية فهذه دول تريد تعزيز نفوذها في مأكلنا ومشربنا.
لكني أتوجه بهذه الإثارات لعرّابي التسوية. أيها السادة، لكي تكلل مساعيكم بالنجاح، ما عليكم سوى ان تضعوا هذه التساؤلات على طاولات مفاوضاتكم، وتقديم إجابات واضحة تقدم مصالح البلاد والناس على مصالحهم السياسية والحزبية. وقتها يفكك الجميع شفرة هذا المنولوج الغامض.
منولوج التسوية الغامض
[post-views]
نشر في: 21 ديسمبر, 2016: 06:31 م