اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > أرواح على قماشات الرسم

أرواح على قماشات الرسم

نشر في: 23 ديسمبر, 2016: 09:01 م

قد ترقد الجواهر تحت التراب، وربما تنام تحت غبار النسيان وتختفي في مكان بعيد ومظلم، يحول دون رؤيتها والاطلاع على وهج جمالها، والتمتع بروعة تأثيرها وتقدير قيمتها. لكن بالتأكيد سيأتي اليوم الذي تمتد نحوها يد حانية تعيدها الى الضوء، وستأتي حتماً، اللحظة التي تقع عليها عين باحثة عن الجمال المخفي، وتشعر بها روح توّاقة للضوء الذي تعكسه الأشياء النادرة. هذا ما حدث تماماً مع اعمال الفنانة الامريكية الفريدة والغريبة أليس نيل (١٩٠٠- ١٩٨٤)، هذه الرسامة التي بقيت أعمالها مع الأسف فترة طويلة بعيدة عن ضوء المتاحف وقاعات العروض وصدى كلمات الإعجاب وتحليلات النقاد.
تسمَّرتُ بالفعل وانا أقف امام لوحاتها الجميلة والمؤثرة، والتي تشبه شجرة مثمرة تمتد أغصانها بعيداً لتؤثر على فنانين كثيرين، وتلقي بظلالها على قماشاتهم وتقنياتهم وأساليبهم. هذا ما أحسست به ورأيته وأنا أتنقل بين لوحات معرضها الكبير الذي يقام الآن بمتحف مدينة لاهاي في هولندا بعنوان (رسم من الروح)، يصاحب ذلك كتاب كبير عن تجربتها وحياتها وحجم تأثيرها.
لقد ابتعد النقاد عنها فترة طويلة، امتدت من اربعينات وحتى سبعينات القرن الماضي، حين كان التجريد والبوب آرت، هما السائدان، وخاصة في الفن الامريكي. وبسبب ذلك انعزلت أليس في مشغلها ترسم العشاق والأطفال وزملائها الفنانين والموديلات التي تختارها من الأشخاص الذين يزورونها في المرسم، او ترسم احد أفراد عائلتها حين يَتَعَذَّر عليها كل ذلك. سنوات طوال
بقيت على هذا الحال حتى صحا الجميع وانتبهوا لها في آخر عشر سنوات من عمرها الفني الطويل، انتبهوا لها وبدأوا يمدّون رؤوسهم بفضول داخل مرسمها، بينما هي كانت منشغلة بوجوه موديلاتها الشاحبة وأيدي شخوصها النحيلة، حيث تتماهى رائحة التربنتاين والالوان الزيتية مع موجودات وأثاث المرسم، لتستمر بعملها بلا كلل ودون توقف، وهي مؤمنة بأنها تضع قدمها وروحها في الطريق نحو نوع نادر من الرسم. وهي كانت تقوم بذلك حتى في أحلك ظروفها، حين كان الكثيرون يخبرونها بأن ماترسمه يمشي عكس التيار، بحيث كان النقاد يجتمعون في مراسم دي كوننغ وبوللوك وغيرهم من مشاهير فناني التعبيرية التجريدية الامريكية، بينما هي تنهمك في المرسم، وحيدة إلّا من قماشاتها ورؤيتها وقوتها الداخلية. وبمظهرها البسيط كان أغلب من يقابلها يظن بأنها ربة بيت عادية، في وقت كان الرجال مازالوا مسيطرين على عالم الرسم، لكنها تفوقت على كل ذلك بفضل موهبة نادرة ويد تحرك الفرشاة بطريقة لم نعتد عليها منذ زمن فان غوخ وإدوارد مونش.
تنتمي أعمال نيل الى المدرسة التعبيرية، وقد تخصصت وتفرغت بشكل كامل لرسم البورتريت، لكنها اضافت الكثير وعكست الحالة النفسية وعدم الاستقرار والذهول الممزوج بالتحرر للشخصيات التي جلست امام مسندها للرسم، وبسبب ذلك يعتبرها نقاد ومؤرخو الفن الآن، واحدة من اعظم ثلاثة فنانين رسموا البورتريت في القرن العشرين بجانب العبقريين فرانسيس بيكون ولويسيان فرويد، لأنهم رسموا ذلك، كلٌ حسب رؤيته وتقنيته الخاصة. في الجزء الاخير من حياتها تعرفت أليس على الفنان أندي وارهول وكونت معه صداقة جميلة، وعن طريقه تعرفت على الكثير من المثليين والنساء المتحررات والشباب الهيبيين، ورسمتهم بطريقتها التعبيرية التي عكست سلوكيات هؤلاء وحالاتهم النفسية وطريقة حياتهم التي تبدو عابرة او غير مهمة. رسمتهم على شكل بورتريهات ثنائية او فردية وهم يجلسون على أرائك المرسم القديمة او يتمددون عراة على سرير جانبي يبدو مهملاً لكنه معد لهذا الغرض.
يقول النقاد بأن أليس كانت تُجلِسُ موديلاتها أمامها وتمسك بشخصياتهم الحقيقية وتضعها على قماشاتها، بينما هي كانت تفضل تعبيراً آخراً أو تسمية اخرى لرسمها، تعبير يتناسب مع رؤيتها الفريدة حيث تقول ( أُحاوِلُ الامساك بروح الشخصية التي أرسمها، لأُثَبِّتُها على اللوحة البيضاء الى الأبد، لهذا افضل بأن تسمونني، جامعة الأرواح).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram