بين "الشاعر" وبين "النجم" بحرٌ محيط. بين "قارئ" الشعر وبين "جمهور" الشعر بحر محيطٌ أيضاً. قد يُصبح الشاعر نجماً لظرف لا يد له فيه، فتجده يضيق بذلك، ويسعى لمقاومته. وإذا ما أظهر شيئاً من طرب ورضا، واعتبره مكسباً، فسيشعر أن ثمة ثلماً في شفرة شاعريته. وله أن يرتضي هذا الثلمَ ويخفي الأمر عن نفسه، وفي هذا استحالة، أو أن يستيقظ، وينفض عنه لألأة القش، وفي هذا مشقة. ولكن الشاعر المطمئن لمناعته المضادة لكل إغواء من العارض السطحي خارجه، على حساب الجوهري البالغ الندرة في داخله، لابد أن يكون أعمق براءة من بذاءات السوق: وجاهةٌ، ثمرةُ إعلام، رعايةُ حزب أو مؤسسة، مكافأةٌ، جائزةٌ... ثم "جمهور"ٌ.
الشاعر دائم التطلع لـ "قارئ" يتطلع له بدوره. الشاعر لا يحتاج إلى "جمهور"، ولا يفهم معنى السعي إليه. موهبة قراءة الشعر موهبة نادرة تضاهي موهبة كتابة الشعر النادرة؛ كلاهما يليقان بميزان الذهب. قارئ الشعر الذي يتمتع بالبصيرة الشعرية، يضاهي الشاعر وزناً، ويعتبره الأخير أثمن هدية في حياته.
"الجمهور" ظاهرة إيهامية اصطنعها "الإعلام" في شتى صنوفه. كراسي القاعة الألف قيمة عددية، ومحض أرقام، والكائنات الانسانية التي تحتلها، سرعان ما تتحول إلى أرقام هي الأخرى. كل كائن جاء للالتحام بالكائن الذي يليه، ثم الذي يليه.. حوار الأجساد مع بعض والألسنة مع بعض هي الهدف. والشاعر على المسرح يقوم بدور الساحر، الذي يهب كتلة "الجمهور" مبرراً لوجودها، مبرراً ظاهرياً على الأقل. الشاعر على المسرح يقرأ للا أحد، وهو يعرف ذلك، فتجرح صوتَه الغُصّة. وهو يرتضي ذلك فيعزز لديه خيانة النفس. الذين يؤمّون قاعة القراءة الشعرية قد يأتون من معمل "إعلامي"، لا يشكل الشعر لديه أكثر من وسيلة رخيصة الثمن لانتاج سلعة السوق: "الجمهور".
الشاعر يطمع بـ"قارئ"، حتى لو قرأ لعدد من المستمعين داخل بهو. وعادة ما يكون البهو صغيراً، شأن البهو الذي يليق بـ"موسيقى الغرفة". المستمع هنا كيان إنساني مكتمل التفرد، في عزلة تامة عن الفرد الذي يليه. ولكي أُقرّب الصورة أستعير مشهدَ عزفٍ للموسيقى الكلاسيكية، كما اعتدتُ عليها هنا في الغرب. فالناس تدخل القاعة محتفيةً ببعض. تأخذ كراسيَّها أول الأمر كثيرةَ الضجيج بفعل التحامها ببعض في التماس والحوار. إنها تشكل كتلةً واحدة: جمهوراً، ولكن عمر هذا الجمهور بالغ القصر، وسرعان ما يتلاشى. إذْ ما أن تخفِتَ الإضاءة، دعوةً للاستعداد للإصغاء، حتى يلتمَّ كلُّ كائن على نفسه، داخل عزلة كرسيه، كأن لم يجاوره أحد. ما من حوار ممكن بين فردين متجاورين. الحوار الممكن الوحيد يتألق بين "المستمع" و"الموسيقي" وحدهما.
قراءات الشعر، التي أحضرها أحياناً، لا تختلف عن هذا في الجوهر. قاعة القراءة عادة ما تكون متواضعة السعة. قد يؤمها مئة مصغ جدّي للشعر، أو خمسة قراء. ما من فرق. وإذا ما وجدتَ غبطةً لدى المنظمين بسبب كثرة المقبلين على الإصغاء لحفل القراءة هذا، فهي غبطة مشروعة، لأن الكثرة هنا لن تشكلَ، مهما ازدادت عدداً، كتلةَ "الجمهور" المصنوعة من قبل اليد المُغرضة، التي نعرفها في مهرجاناتنا الشعرية.
حين يبدأ الشاعر قراءته، يدخل المستمع عزلته ويصغي. وما من حوار ممكن غير الحوار بينهما. وهذا التقليد هو ضرب من التطلع لتحقيق تلك العلاقة التي يصبو إليها الشاعر، ويصبو إليها القارئ على حد سواء. وهو تقليد لا يحقق مبتغاه دائماً؛ أي أنه قد يتسع لشاعر يطمع أن يكون نجماً. أو يُنتج شاعراً بهذا المعنى أيضاً. وما من تطلع يخلو من شائبة، تعلق في أذياله من شوائب الحياة النفعية. فالشعر في النهاية لغة، يستخدمها الملاك والشيطان، وما الشاعر في هذا المعترك إلا مصفاة.
"قارئ" الشعر و"جمهوره"
[post-views]
نشر في: 25 ديسمبر, 2016: 09:01 م