"أما لهذا الليل من آخر" ..فكرت المرأة الشابة وهي تهدهد رضيعها أملا في منحه نوما هادئا ..احتضنته بكل ما اوتيت من حنان لتمنحه الدفء الذي تفتقده ..هي تدرك جيدا بأن فاقد الشيء لايعطيه لكنها تركن الى حقيقة اساسية تقول بأن حنان الأم يمنح الدفء للأبناء ...
مضت ساعات من الليل دون ان ينعم احد من سكان المخيم بالنوم او الدفء ..كيف تحول المطر الذي كانوا يترقبون هطوله في قريتهم لينمو زرعهم الى نقمة تهدد بقاءهم ..انهم يصارعون من أجل البقاء منذ أن غادروا أمانهم وتحولوا الى نازحين يعيشون انتظارا دائما ..انتظار المساعدات الغذائية من المنظمات الانسانية ووزارة الهجرة والمهجرين ..انتظار المنحة المالية من الحكومة ..وقبل كل شيء انتظار تحرر مناطقهم واستقرارها ثم العودة اليها ..والآن ، هاهم يعيشون انتظارا من نوع آخر ..أن يتوقف المطر وينقضي هذا الليل الطويل دون ان يخسروا شيئا آخر فقد فاق حجم خسائرهم كل امل باستعادة احساسهم بآدميتهم ..
حاولت المرأة ان تضع رضيعها في فراشه بعد ان نام أخيرا لتبحث عن بقية صغارها لكن الخيمة الصغيرة التي تؤويها معهم لم تصمد امام المطر وقد طال البلل كل ماتملكه من أفرشة وأغطية ..لم تكن المدفأة الصغيرة تكفي لتجفيف اغطيتها لكنها ليست مخيرة ابدا ، فهناك من ينتظر اهتمامها وقد طال بقاؤهم تحت المطر برفقة الرجال الذين امضوا يومهم وليلهم في تنظيف المخيم من الطين والوحل دون جدوى فالمطر مازال يهطل لكن توقفهم يعني غرق المخيم واذن فهم ليسوا مخيرين ايضا !!
بعد ان وضعت طفلها على قطعة بدت جافة من امتعتها الفقيرة ، خرجت من الخيمة لتخوض في الطين باحثة عن اطفالها ...لاحت لها من بعيد اضواء زاهية لمنازل بعيدة ..تخيلت كيف يعيش سكانها ..لابد انهم ينعمون بالدفء وان شوارعهم نظيفة واغطيتهم جافة واولادهم يغطون في نوم عميق ..كانت قد سمعت قبل ايام من زوجها ان اغلب المسؤولين يتوافدون على المطار مع عوائلهم بهدف السفر وقضاء عطلة اعياد الميلاد خارج العراق ..مرق في ذهنها خاطر غريب ..تذكرت كيف كانت تتلقف اية مجلة او صحيفة تقع في يدها لتقرا توقعات برجها ..كان البرج يعدها بايام زاهية وامنيات قريبة التحقيق فيزودها بشيء من السعادة ..لماذا لم تجد فيه شيئا ما عن ايام الخوف والنزوح والانتظار ...ابتسمت بسخرية مريرة فما وصلت اليه لاتعلن عنه الأبراج لأنها خلقت لتمنح الامل والتسلية للقراء ليواصلوا قراءتها ..لعلها صدقت فقط حين بشرت سياسيي الحاضر بما ينتظرهم من خير وفير وايام زاهية ومستقبل مضمون ، وهي لاتستبعد طبعا ان يكونوا من قراء الأبراج سابقا ومن صناعها حاليا فهم يتقنون الشعوذة ويجيدون بث الآمال الكاذبة لذلك يسهل عليهم كثيرا صناعة الأحلام والمتاجرة بها لضمان بقائهم ..نفضت المرأة الشابة رأسها لتبعد عنه تلك الخواطر الغريبة وعادت لتخوض في الوحل باحثة عن صغارها ...شاهدت ابنها الأكبر يمسك بممسحة يزيح بها ماء المطر عن الخيام ،ولمحت ابنتها الصغيرة وهي تنزوي مع عدد من الاطفال المتحلقين حول نار مشتعلة في ركن صنع له الآباء سقفا من (الجينكو ) ..شعرت بوخزة الم وغصة فكل ماحولها يشي بالبؤس ...ويدعو الى الانتظار ...انتظار الفرج ..والعودة ..وقبل كل شيء ..انتهاء هذا الليل الطويل ....
ماذا قالت الأبراج ؟
[post-views]
نشر في: 26 ديسمبر, 2016: 09:01 م