ولد بوشكين في العام 1799, وهو من عائلة نبلاء, وبرز عندما كان في المدرسة, وتنبأ له الجميع بمستقبل أدبي زاهر,أما تشيخوف فقد ولد في العام 1860, وكان جده من الأقنان , الذين استطاعوا شراء حريتهم , وكان أبوه تاجرا صغيرا أفلس واضطر أن يغادر مدينته تاغنروغ هربا من الدائنين, وترك ابنه أنطون وحيدا هناك, واستطاع الابن أن ينهي المدرسة ويلتحق في كلية الطب في جامعة موسكو بجهوده الفردية وعمله وكفاحه, وبدأ أنطون تشيخوف منذ عام 1880 بنشر قصص فكاهية صغيرة في مجلات الدرجة الثانية الروسية كي يحصل على بعض النقود التي تعيله في الدراسة والمعيشة.
لم يحلم تشيخوف- يوما ما -أن يكون اسمه جنب اسم بوشكين , إذ أن الأخير أصبح ومنذ ظهوره الاسم الأول والأكبر في مسيرة الأدب الروسي وتاريخه ,وقد اعترف كل أدباء روسيا الكبار بهذا ابتداء من ليرمنتوف وغوغول وتورغينيف ودستويفسكي وتولستوي ووو..,ولكن بعد وفاة تشيخوف في العام 1904, اطلق تولستوي جملة بسيطة وعميقة في آن واحد ,قال فيها إن تشيخوف هو – بوشكين في النثر, وأوضح تولستوي فكرته هذه كما جاء في شهادة الناقد لازاريفسكي في إحدى مقالاته التي نشرها في موسكو عام 1909 تحت عنوان (عن تولستوي) هكذا – ( كل شخص يقدر أن يجد في قصائد بوشكين شيئا – ما عاشه هو نفسه أو عاناه, وفي قصص تشيخوف يجد القارئ حتما نفسه وأفكاره) . إن أقوال تولستوي لم تأت طبعا من فراغ, وإنما جاءت مستندة إلى خبرته وتجربته الغنية في الإبداع الفكري.
لقد حاول النقاد والباحثون تطوير هذه الأفكار, وأخذوا يقارنون بين نتاجات تشيخوف وبوشكين, واكتشفوا أن الشيء الرئيسي والأساسي الذي يوحدهما هو مفهومهما للأدب بشكل عام,فمن المعروف أن بوشكين لم يعلن نفسه معلما أخلاقيا للآخرين , ولم يوظف مؤلفاته لتوجيه القراء وإقناعهم بأفكاره ومثله العليا كي يحذوا حذوه, ولم يحول أدبه إلى تعاليم فلسفية واجتماعية كما فعل ذلك كبار الأدباء الروس من بعده مثل غوغول وتورغينيف ودستويفسكي وتولستوي. إن هدف الشعر بالنسبة لبوشكين – هو الشعر نفسه ,الذي ينطلق من (الدقة والإيجاز) , كما عبر بوشكين نفسه مرة ,وكل هذه الصفات تنطبق على تشيخوف أيضا, الذي كان يؤكد أنه يريد أن يكون(فنانا حرا فقط) ولم يرغب أبدا في أن يحول مؤلفاته إلى محكمة تصدر الأحكام على أبطاله, بل كان يصر على أن يكون شاهدا موضوعيا لما يجري حوله, ويترك الحكم للقارئ ليس إلا.
يتميز بوشكين وتشيخوف أيضا في كونهما قد طرحا في أدبهما الحوادث البسيطة والاعتيادية دون إطار فلسفي معمق وحوارات فكرية مطولة بين الأبطال, وهي الصفات التي تميّز بها بقية كبار الأدباء الروس كما هو معروف, ولعل التوقف قليلا عند رواية بوشكين – (يفغيني اونيغين )الشعرية , حيث البساطة في المضمون والأسلوب الشفاف وتقنيته , ومقارنتها بقصة تشيخوف – ( السيدة ذات الكلب الصغير ) , التي تتضمن نفس تلك الخصائص , يمكن أن توضح هذه التشابه والتناغم الفكري بين بوشكين وتشيخوف.
إن رواية ( يفغيني اونيغين) هي العمل الفني المركزي عند بوشكين وهي قمة إبداعه الأدبي, هذه الرواية التي أسماها الناقد الأدبي الكبير بيلينسكي – (موسوعة الحياة الروسية ) , التي يمكن القول إن الشعب الروسي لحد الآن يعرفها ويطالعها ويتغنى بها ويستشهد بأبيات منها، بغض النظر عن المستويات الثقافية والفكرية المختلفة . إن مجمل مضمون هذه الرواية يكمن في قصة حب فتاة شابة كتبت لحبيبها يفغيني اونيغين رسالة ,تفصح فيها عن حبها له, ولكنه لم يتقبل ذلك, وتمضي السنوات ويلتقيان مرة أخرى,فيبدأ هو بملاحقتها ,ولكنها تجيبه بشجاعة وأمانة أنها لا تزال تحبه لكنها متزوجة الآن وبالتالي ترفضه. ولم يضع بوشكين لهذه الرواية أي نهاية, وأبقاها هكذا (مفتوحة) ليس إلا. وهذا كل شيء في تلك الرواية, والسؤال هو – لماذا أصبحت هذه الرواية ( موسوعة ) الحياة الروسية؟ والجواب – لأن بوشكين كتب فيها بأسلوبه السهل الممتنع عن كل تفاصيل الحياة اليومية الروسية,وأذكر مرة اندهاشي, عندما كنت أتحدث مع امرأة روسية مسنٌة أعطتني نوعا من أنواع المربى وقالت لي إنها مذكورة في رواية يفغيني اونيغين, وأذكر أيضا ما قاله لي أحد المترجمين الروس مرة, مجيبا على اعتراضي لاستخدامه مفردة إنكليزية في سياق الجملة الروسية قائلا , ان بوشكين استخدم كلمة انكليزية في سياق روايته تلك, وقرأ مقطعا من الرواية ,حيث يخاطب بوشكين شخصا اسمه شيشكوف, كان لغويا روسيا متزمتا, ويعتذر منه بمرح لأنه استخدم مفردة إنكليزية لا يعرف كيف يترجمها, وقال لي المترجم الروسي – إذا كان بوشكين قد عمل ذلك فلماذا لا أعمل أنا ذلك؟ ولا أريد الاستطراد أكثر في هذه المجال المتشعب والكبير, ولكني أود الانتقال إلى الحديث عن القصة الطويلة ( السيدة ذات الكلب الصغير )لتشيخوف. إن مضمون هذه القصة يتناول لقاء رجل متزوج بامرأة متزوجة , وقصة حبهما في ما بعد,وتنتهي القصة ببكاء مرير من البطلة التي لا تجد مخرجا لهذا الحب وكلمات باهتة للبطل ليس إلا,أي أن تلك القصة ( كما هو الحال في قصصه الكثيرة الأخرى) تبقى دون نهاية محددة, بل تمتلك نهاية مفتوحة لكل الاحتمالات( مثل نهاية يفغيني اونيغين), ولكن هذا المضمون البسيط لهذه القصة لم يمنعها من أن تصبح واحدة من أجمل نماذج الأدب العالمي التي تحولت إلى فيلم سينمائي شهير وترجمت إلى عشرات اللغات الأخرى و ما زالت واحدة من القصص التي تطبع وتنتشر بين القراء, ومن الطريف أن نشير هنا إلى أنها قد تحولت إلى نصب في مدينة يالطا ,التي تعارف فيها البطل والبطلة أثناء عطلة الصيف, ويقف هذا النصب الآن على كورنيش المدينة وأصبح معلما من معالم مدينة يالطا. ولا يمكن الاستطراد أكثر في هذا المجال,ولكن يمكن الاستنتاج, أن أسلوب البساطة المتناهية بالمضمون والشكل في الأدب الروسي ,الذي بدأه بوشكين قد انبعث واستمر – بعد انقطاع في مسيرة هذا الأدب – عند تشيخوف بالذات,وأنّ خطاً فكرياً وفنياً واضحاً قد تبلورفي هذا الأدب , ويمثله ويجسمه بحق بوشكين وتشيخوف.
هناك بالطبع صفات مشتركة أخرى بينهما, لعل أهمها هو التقارب في أسلوب الكتابة وتقنيتها, فكلاهما كانا يؤكدان استخدام التفاصيل الدقيقة والصغيرة لإبطالهما, كي يوصلا للقارئ صفات هؤلاء الأبطال,متجنبين الوصف التفصيلي والشرح الفائض للمزاج الروحي لهؤلاء الأبطال,وكل ذلك كان يتطلب استخداما واسعا جدا للمفردات اللغوية واشتقاقاتها, لدرجة جعلت مكسيم غوركي يشير ,إلى أن مؤرخي الأدب الروسي سيقولون ,إن هذه اللغة قد وضع أسسها كل من بوشكين وتورغينيف وتشيخوف.
إن موضوعة بوشكين وتشيخوف متشعبة جدا في دنيا النقد الأدبي الروسي ,ومن الطريف ختاما أن نشير هنا إلى مقالة كتبها أندريه بيتوف – رئيس نادي القلم في روسيا بعنوان مثير هو (جدي تشيخوف وجد جدي بوشكين), يتناول فيها التناغم الجميل بين الأديبين, ويعتبر بوشكين ممثلا لظاهرة المستوى الثقافي العالمي في الإنسان الروسي, أما تشيخوف فإنه يجسد ظاهرة التحضّر في المثقف الروسي ,مؤكدا عدم وجود ( أفكار عارية) لديهما, وأن أسلوبهما هو رمز الحفاظ على نظافة البيئة الأدبية واللغوية.
جميع التعليقات 1
وعد
السلام عيلكم في الوقت الذي اشكر الاستاذالدكتور على هذا المقال التحليلي المبسط والعميق , احب ان اؤكد لجنابكم ماذكرته تماما عن البساطة في الادب الروسي , وهو ماوجدته في روايتين , الاولي هي الاخوة كارامازوف لديستو يوسكي ( كما اخبرني زميل روسي بان اسمه ه