كانت الثورة الجزائرية, التي قادتها جبهة التحرير الوطني الجزائرية, ضد الاحتلال الفرنسي, وإطلاقها الرصاصة الأولى ضد وجوده في الأول من تشرين الثاني /1954 فضلاً عن اختطاف فرنسا عدداً من قادة الثورة الجزائرية خريف سنة 1956 وهم في طريقهم من الرباط إلى تونس
كانت الثورة الجزائرية, التي قادتها جبهة التحرير الوطني الجزائرية, ضد الاحتلال الفرنسي, وإطلاقها الرصاصة الأولى ضد وجوده في الأول من تشرين الثاني /1954 فضلاً عن اختطاف فرنسا عدداً من قادة الثورة الجزائرية خريف سنة 1956 وهم في طريقهم من الرباط إلى تونس العاصمة, أحمد بن بلة, ومحمد بو ضياف, ومحمد خيضر, وحسين آيت أحمد, فضلاً عن الصحفي المرافق مصفى الأشرف, كانت صورتهم وهم مقيدون بالأغلال, توقد حماستنا القومية والوطنية.
كنا فتياناً في نهاية مرحلة الدراسة الابتدائية, وزادها, اعتقال المجاهدة جميلة بوحيرد وحكمها بالاعدام, فضلاً عن رفيقتها جميلة بوباشا, كنا نتبادل صورة بوحيرد ونضعها على أغلفة كتبنا المدرسية, واستقبلنا فريق كرة القدم الجزائري الذي جاء للعراق للعب مع عديد فرقه, منها لعبه أمام فريق مصلحة نقل الركاب في شهر شباط /1958 في ملعب الإدارة المحلية بالمنصور, وتظاهرنا تأييداً لثورة الجزائر, وإعلان الوحدة السورية المصرية, في الملعب وخارجه وصولاً إلى جسر الشهداء, وكان حديث الثورة الجزائرية الذي يذاع من إذاعة بغداد, عند التاسعة مساءً يومياً والمذيع بلكنته الجزائرية المحببة, كان الاستماع لهذا الحديث طقساً يومياً, وتألقت حماستنا يوم تشكيل الحكومة الجزائرية المؤقتة خريف عام 1958, وتولى قيادتها فرحات عباس (1899-1985) حتى إذا زار أحمد بن بلة العراق سنة 1962 فضلاً عن جميلة بوحيرد, دفعنا شعورنا القومي, كي أكون عند بوابة مطار بغداد الدولي, القريب من محطة السكك العالمية, والذي تحول في الثمانينات إلى مطار المثنى العسكري, في استقبال الوفد الثوري الزائر للعراق.
هذا الشعور الفياض, دفعني لمتابعة ما يكتبه الأدباء الجزائريون, وكان أدبهم يأتينا مترجماً, فأدباء الجزائر وروائيوه, أيام الحكم الفرنسي (1832-1962) كانوا يكتبون بالفرنسية, فالتعليم بالفرنسية, وتكاد العربية تتلاشى لولا بعض المساجد, فضلاً عن ذهاب الميسورين للتعلم في تونس المجاورة ولاسيما في جامع الزيتونة العريق, قرأنا شكوى جميلة بوحيرد من أنها لا تستطيع التكلم بالعربية, وقرأنا لوعة الروائي الجزائري محمد ديب (1920- 2003) من انه يكتب بالفرنسية, بسبب الاستعمار الفرنسي, كتب ثلاثيته الروائية الدار الكبيرة, الحريق, النول, ونقلها للعربية سامي الدروبي, رافضاً أن يعد أدبه فرنسياً, بل يراه أدباً قومياً يظهر الآن في المغرب العربي عامةً, وفي الجزائر خاصة, غير أن الأمر الذي له دلالة بليغة هو أن هذا الأدب يكتب بالفرنسية في بلاد ذات تراث ثقافي إسلامي لا تزال تحاول, ولو في كثير من العناء, أن تقدم إنتاجاً أدبياً باللغة العربية.
أما مالك حداد (1897-1978) فيصيح مخاطباً الشاعر الفرنسي المعروف, لويس اراكون (1897-1982) أنا أرطن ولا أتكلم, إن في لغتي لكنة, إنني معقود اللسان... فلو كنت أعرف الغناء لقلت شعراً عربياً (...) لقد شاء الاستعمار أن تكون في لساني آفة, تراجع مقدمة المترجم الدروبي للثلاثية.
فضلاً عن كاتب ياسين (1929-1989) الذي أشتهر وعرف في وطننا العربي بروايته (نجمة), كان هذا الثلاثي مضيفين إليهم مولود فرعون الذي اغتالته منظمة الجيش السري الفرنسي في شهر آذار 1962, وهي التي أعلنت سياسة الأرض المحروقة, ضد الجزائر, إثر نجاح مباحثات إيفيان بين الثوار والحكومة الفرنسية, وقرار الرئيس الفرنسي الأسبق (شارل ديكول) المتوفى خريف /1970, بمنح حق تقرير المصير للشعب الجزائري, فضلاً عن مولود معمري (1917-1989) أقول كان هذا الثلاثي الروائي, يثير حماستنا وتعاطفنا ومرت السنون لنجد أن هذا الذي بنينا عليه الآمال, بدأت تعتوره الانتكاسات والخيبات, والانقلابات التي كانت بدايتها انقلاب وزير الدفاع هواري بومدين في حزيران 1965 ضد السلطة الشرعية الدستورية المنتخبة ممثلة بالرئيس أحمد بن بلة.
كنا نسمع عن تلكؤ سياسة التعريب, وكانت تتوارد إلينا أخبار التخريب الزراعي الذي حصل, وعزم الحكومة على تحقيق (ثورة ) زراعية جذبت لها الطلاب, وما حركت الفلاحين أصحاب المصلحة الحقيقية! وظلت الجزائر تحيا على ما تدره صادرات النفط, المعرضة للهبوط والارتفاع.
قرأت ثلاثية (ذاكرة الجسد) و(فوضى الحواس) و (عابر سبيل) للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي, ابنة مدينة قسنطينة, مدينة الجسور التي لا تعد, وابنة المجاهد الجزائري الكبير محمد الشريف الذي يمثل الرعيل الأول من مجاهدي جبهة التحرير الوطني الجزائرية. ولمست, لا بل تأكدت من خيبتها من هذا الذي دفع أبوها حياته من أجله فالوصوليون وماسحوا الأكتاف والانتهازيون يعيثون فساداً في الحياة الجزائرية, فضلاً عما قرأته لياسمينة خضرا, الاسم المستعار للروائي, الضابط الجزائري السابق (محمد مولسهول) (1955- ) ولاسيما روايته (بمَ تحلُم الذئاب) ترجمة وتقديم أمين الزاوي وإذ أقرأ رواية (الزلزال) للكاتب والروائي الجزائري الطاهر وطار, المولود سنة 1930 من أسرة بربرية, درس في معهد عبد الحميد بن باديس ذي التوجهات الإسلامية, التي استهوته زمناً, لكنه ما يلبث أن يغادرها نحو الماركسية.تتأكد لي خيبة الناس بهذه الثورة التي دفعت من أجلها أكثر من مليون شهيد, فالناس تنعق مع كل ناعق, وغيرت جلدها سراعاً لتتواءم مع الحياة الجديدة, وتحاول نسفها وحرفها, أو في الأول تمشية مصالحها الفردية.
رواية (الزلزال) من روايات الحيز الضيق, فحوادث الرواية تجري في مدينة قسنطينة, فضلاً عن محدودية زمانها, فهي لا تكاد تتجاوز العشر الساعات منذ أن وصل عبد المجيد بو الأرواح إلى مدينته, التي شهدت مسقط رأسه وأجداده, مدينة قسنطينة, التي غادرها إلى تونس, بُعَيّدَ انطلاق الثورة الجزائرية ليؤكد الروائي سلبيته إزاء الحياة, فهو غادر بلده بحثاُ عن أمان ذاتي وإذ يحصل الاستقلال في ربيع 1962, ويتوج رسمياً في تموز/ 1962, يعود عبد المجيد بو الأرواح, صاحب الأرض الزراعية الشاسعة, التي حصل عليها بطرق مشروعة وراثة أو غير مشروعة .
يعود بو الأرواح إلى بلده, لكن الروائي زيادة في تبشيع صورته لا يعيده إلى قسنطينة, إلى مدينة الآباء والأجداد, كي يستثمر أرضه, بل يعيده إلى العاصمة مديراً لإحدى ثانوياتها ويبقى سنوات لا يفكر حتى بزيارة أهله وذويه.