TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > في كل عام...

في كل عام...

نشر في: 2 يناير, 2017: 09:01 م

"في كل عام حين يعشب الثرى نجوع
ما مر عامٌ والعراق ليس فيه جوع".
هكذا رسم بدر شاكر السياب صورتنا في وقت مبكّر. الشعراء ملاعين حين يرصدون الزلازل قبل حدوثها مثل حيوانات ذكية، وزلازل العراق متكررة وغير ذكية. الغباء يمكن أن يكون خطراً أكثر من الذكاء. غبي يعبث بعود ثقاب فيشعل حريقاً.
يبدو أن أغبياء العراق، من حكامه أو محكوميه، أكثر بكثير من أذكيائه. حسب المنطق، أذكياء أي مجتمع أقل بكثير من أغبيائه.
حل العام الجديد فحضر السياب الذي كتب مانفيستو المطر وهو في أفضل حالاته، لا تلك التي رقص فيها على سرير مرضه مبتهجاً بالثامن من شباط 1963 وهو في أرذل حالاته.
الشاعر في صعوده يعني صاعداً وإن هبط. صعود الشاعر هو مقياسه. يعني طاقته على التألق لأن الهبوط لا يحتاج طاقة.  
أشير إلى السياب، في ذكرى رحيله، لكن عبر مأساتنا، لا مأساته.. عبر نبوءته لا وفق عمانا.
عشب السياب وفيرٌ وفيرٌ وصحراؤنا عميقة في الجغرافيا والتاريخ.. والروح أيضاً.
ها هو عام جديد حل ورحل قبل يومين وما زال واقع الحال أسوأ من المحال.
لا أعني لقمة الخبز، على أهميتها، فثمة عراقيون وعراقيات يجوعون فعلا، بيولوجياً، بطونهم فارغة.. بل أعني الجوع لكل شيء.
أنا جائع عادي لأكون مواطناً عادياً في وطن عادي.  
الجوع للأخلاق على الأقل.
الجوع لما نتشدق به بشأن غيرة العراقي.
الغيرة؟
كانت أمي تردد فخورة: ابني الذي جارته أخته!
الجوع للأمور الصغيرة قبل الكبيرة: أكبر الأشياء (والأفكار طبعاً) تتكون من ثيمات صغيرة. النامي منها والمتكون.
الأنانية أس الفساد والفساد أس العنف والعنف أس الخراب.
الأنانية، في اللغة، مصدر صناعي، والأنا هي ضمير المتكلم.
عندما تسود "الأنا" تختبئ كل الضمائر الأخرى: هي وهو وهم ونحن وأنتم.  أنا ضمير المفرد المتكلم والبقية عليهم الإنصات والخضوع.
كل "أنا" مكبرة صوت، مدنية أو مسلحة ولا فرق. الاثنتان تتنافذان وتتعايشان وإن تصارعتا. الأولى تصنع الثانية والعكس صحيح.
الضمائر مخاطبة ومتكلمة وغائبة ومنفصلة ومتصلة. كلها جائعة.
ما مر ضمير على وجه البسيطة / اللغة إلا وكان جائعاً، في العراق خصوصاً، إلى نبضه الإنساني. فهو في اللغة تجريد بلا أي نبض يذكر. شخصياً، ضميري جائع إلى من يلمس نبضه وهو يتطامن، قليلاً أو كثيراً، ليكون الناس مطمئنين.
ضميري ليس تجريداً، كضمير المفرد المتكلم.. بل تفاحة مشاعة لا تسأل المشتهي عن دينه وطائفته وحزبه وعشيرته وبطاقة سكنه وشهادة جنسيته.. والتفاح أشكال وأنواع، وتفاحتي من النوع الذي  لا يستمرئه الجلاد ولا يقوى على مضغه ذوو الأسنان الفولاذية، لأن رقة التفاحة أقوى من الفولاذ وإن سحقها بغطرسة عراقية عريقة.. قوتها باستسلامها البريء. جوعنا أزلي حتى لرغيف خبز، نعم، لكن الجوع لا يختزل بالرغيف، رغم ضرورته. ثمة جائعون كثر حتى في تلك البلدان التي ادعت توفير الخبز لمواطنيها. رأيت بأم عيني وأبيها طوابير الجائعين في تلك البلدان. جوعنا أكبر من أن يوصف في بلد الماء والنفط والدم. السوائل الثلاثة الأخطر في حياتنا.
الجوع للمعرفة ليس بحثاً في الكتب فقط بل في حياة آمنة تتيح للأطفال مدارس تليق بطفولتهم. الجوع لبيت بلا تهديد ولا وعيد. الجوع لمشاعر مواطن عادي يقبل بأي حكم قضائي، مهما كان قاسياً، من حاكم مهني وعادل لا يخشى في قولة الحق عنصر مليشيا تافه.
الجوع للحظة غرام في متنزه عام بلا شرطة آداب يفتقرون للأدب.
كل عام وأنتم بلا جوع.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالحوارِ أم بـ"قواتِ النخبة".. كيف تمنعُ بغدادُ الفصائلَ من تنفيذِ المخططِ الإسرائيلي؟

تحديات بيئية في بغداد بسبب انتشار النفايات

العراق بحاجة لتحسين بيئته الاستثمارية لجلب شركات عالمية

الكشف عن تورط شبكة بتجارة الأعضاء البشرية

مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram