TOP

جريدة المدى > عام > الصورة والجسد.. نظرات في فوتوغرافيا الكُرد

الصورة والجسد.. نظرات في فوتوغرافيا الكُرد

نشر في: 7 يناير, 2017: 12:01 ص

لعل الكاميرا وهي ترقد بين كفيّ الفنان الكردي ، منقادة من خلال معرفة الحياة وسحرها المتبدل والموحي إلى ممارسة الرصد للممكن وغير الممكن ، للاعتيادي المألوف والاستثنائي . فغنى الحياة بمجريات أحداثها سلباً أو إيجابا ً دفع الفنان إلى أن يكون قريباً من كل

لعل الكاميرا وهي ترقد بين كفيّ الفنان الكردي ، منقادة من خلال معرفة الحياة وسحرها المتبدل والموحي إلى ممارسة الرصد للممكن وغير الممكن ، للاعتيادي المألوف والاستثنائي . فغنى الحياة بمجريات أحداثها سلباً أو إيجابا ً دفع الفنان إلى أن يكون قريباً من كل ما هو متغيّر، لاسيّما وأن منطقة كردستان قد شهدت ظروفاً تراجيدية لابد من مدونة الإبداع من الوقوف عندها ، لتقدم شهادة لما هو منظور له على أنه ماض يمنح الدرس البليغ لكل الخطابات.

ولعل الفن التشكيلي والفوتو كانا أقرب للمتغيّر هذا ، إذ سجّلا رؤيتهما له. فمن خلال المنجز الفني انسحب الفنان إلى مناطق جديدة دون التواري عن التاريخ . غير أن جيل الشباب من الفنانين استجاب للواقع وعمل على ما تسعى إليه الإرادة البشرية في تجميل الواقع . وفي هذا لم يلغ التاريخ ، وإنما أجّل النظر إلى أحداثه الدامية مقابل استقرار الحياة وزهو الطبيعة ، فهو جيل يستشرف المستقبل ويهيئ مستلزمات النهوض من أجله . لذا نراه يمنح رؤيته نوعاً من الانفتاح على الحياة الجديدة ، خاصة تلك التي تزهو بها  الطبيعة ، حيث حفلت صور الفنان بمشاهد الزهور من جهة والغابات وقمم الجبال المكللة بالخضرة والإزهار وندف الثلج ، ومن جهة أخرى رصد الوجوه والهيئات ببورتريهات متعددة المنحى. فمن رصد وجوه الأطفال إلى التقاط وجوه الشيوخ كانت حصيلة رحلة الفنان الإبداعية  . مما سجّل ظاهرة واضحة ومؤكدة على مثل هذا الاهتمام . وهذا دليل على أن النفس البشرية بدأت تحتفي بمستقبل الحياة وعدم جعل الماضي أداة تعطيل لمشروع الإنسان .  فالمتلقي البصري للصورة التي تنتجها كاميرا الفنان ، تعكس ولعه بسر وسحر الطبيعة ، كذلك بتجسيد الوجوه والقامات على شكل بورتريهات فنية ، ثم ولعه بالجسد في أشكاله المتأتية من أفعال هي بمثابة حوارات دائمة مع نسق الحياة ، كما لو أنها تؤدى على خشبة المسرح ، خاصة لوحات الباليه ، مستجيبة إلى حيثيات نص صامت ، يتطلب من الجسد امتلاك لغتين في لغة واحدة ، هي التعبير الصامت والصائت في آن واحد من خلال الخطوط والألوان والأطياف التي ترشحها حركة الجسد استجابة لتأثير موسيقى خفية تثير الحواس . فالإضاءة وتقاطع الخطوط والظل هما ما يسرد مثل هذه المشاهد ، فقد تدّخل الفنان من خلال عدسة العين المجردة والمسترشدة بعدسة الكاميرا أن تُعطي للصورة سر التعبير بتلقائية ما اختار من ظواهر الحياة ، وجعلها ماثلة من خلال مشهد الصورة . صحيح أن الصورة الفوتوغرافية تنقل المشهد ، غير إن مشهد الصورة ينطوي على محركات بسبب فنية اللقطة وتوفر عناصر الجدل ضمن ما هو موجود من علاقات بين مفردات  كادرها . لذا نجد أن الصورة تنأى عن كوّنها صورة مطابقة لمشهد الواقع ، بقدر ما هي مفسّرة له ، وناقدة لسلبياته ، ومشيدة وناهضة بإيجابياته .
ولعل المكان واحد من الظواهر التي اهتمت بها الصورة ، وجعلته في صدارة المشهد الفني . ذلك لأن التعامل مع المكان ، يعني التعامل مع الذاكرة ، وبالتالي يتم التعامل مع التاريخ . فالمكان جامع لتاريخ الجماعة . لذا فأن فيه سر الموجودات وقدرتها على خلق المناخ المناسب للإنسان . فإذا نظرنا إلى المكان في كردستان كالجبال والسهول والقرى والمدن ، لتذكرنا كيف كانت تلك الأمكنة معرضة للإمحاء . وهذا يعني بطبيعة الحال إلى انمحاء الوجود . إن ما تعرض له المكان كان الهدف منه إلغاء تأريخ الجماعة . بمعنى محو الطابع الطوبوغرافي ، وبالتالي محو الطابع القومي . هكذا وجد الفنان نفسه أمام واقع مُدَمر وذاكرة مشوشة ومستقبل غير واضح . غير أن تغيّر الظروف السياسية والاجتماعية في كردستان أحال تلك النظرة إلى أخرى مدققة بالواقع ــ خاصة عند الفنانين الشباب ــ فهم لم ينشغلوا بحراك الماضي والدوران في فلكه ، وإنما انشغلوا باستقبال الحياة ورصد ما عمّرته الطبيعة في ذاتها فأنتجت مناخاً جمالياً مغايراً لما كان مخطط له . وهذا أحال النظرة إلى رصد الواقع المعاش بكل موجباته ، وكأن مقارنة خفية قائمة بين ما يكون وما كان وما سوف يكون . وهذا ما تلاحظه الذاكرة المتلقية لمشهد الفن هذا . فللذاكرة الفردية والجمعية في هذا رصيد يشي بأزمنة ماضية مقترنة بأمكنة كانت ثم دُمرت ، بعدها أعيدت لها الحياة من جديد . وما الفنان إلا واحد ممن يراقبون الحياة ومجرياتها ، ويسجّلون متغيراتها وانعكاساتها ، ولهم في هذا حصيلة تاريخية استلهموها ممن سبقهم من الذين عملوا على إيقاظ الذاكرة الفردية .
تضاف إلى هذه الأنماط من التعبير ، أنماط أخرى حفلت بها صفحات مجلة ( تاو ) الكردية المتخصصة بفن الفوتوغراف . وما قراءتنا هذه إلا جزء من مشروع يستوعب أكبر قدر ممكن من اللوحات المعبّرة بعمق عن التأريخ الاجتماعي والميثولوجي والطبيعي الذي عليه مكوّن الفنان وهو يمارس متابعة الطبيعة وحركة الحياة والتاريخ ، لخلق مدونته إلى جانب الفنانين الفوتوغرافيين في بقاع الأرض من العالم .
ومن مراقبة الصورة المنتجة يمكننا التعامل معه وفق محور عديدة . لعل الجسد يأخذ حيّزاً مهما وإن اختلف جنسه ، التعامل يكون وفق المتحرك والنشط منه ، فالفعالية التي يُصدرها الجسد وهو يؤدي نشاطاً إنسانياً ، سواء في العمل أو على قارعة الطريق ، في المسرح أو من خلال رقص الباليه وغيرها ، تكون مادة الصورة التي تتفاعل معها لا باعتبارها لاقطة للمشهد ، بقدر ما هي  متفاعلة معها ، على اعتبار أن خطاب عدسة العين متضامنة مع عدسة الكاميرا تكوّن جسداً واحداً مقابل جسد آخر ، أي اتحاد وتخاطر جسدين على وفق رؤى موحدة ، مما ينتج صورة تعالج الواقع ، لكنها لا تنسخه .وهذه النظرة تنطلق من فهم وظيفة الصورة من جهة ، ومن طبيعة الخطاب الذي يبدأ من الظاهر إلى المضمر في المشهد . لعل في هذا تعمل مجموعة عناصر من شأنها تصعيد وتيرة التعبير بالصورة . ومن هذه الممكنات هي الضوء والظل الذي يشتق الألوان والخطوط والزوايا ، أسوة باللوحة التشكيلية . إن الاستعارة هنا من التشكيل باتجاه الفوتو يعني تقارب عالميهما من خلال التطور التقني الذي حدث على تكوّن الصورة ونشأتها ثم وظيفتها .
إن هذا يقودنا إلى مشغولية الكاميرا في الفن الفوتوغرافي الكردي ، حيث يتنوع من خلالها الحراك الفني ، بحيث يأخذ الفنان مساحة أكبر وأوسع لطرح أفكاره ورؤاه اتجاه ما يرى ويحسّ . وبهذا نجد أن التعامل مع المشهد محفوف بالترقب والحذر والتلقائية تارة والصنع في أخرى . غير أن كل هذا قاد إلى تبلور مشهد فني امتلك خصائصه عبر تنوع الثيمات ، وعمق اللقطات . كذلك ظهر ما يقترب من الحوار مع الواقع من خلال أنساقه وتركيباته البنيوية زمانا ً ومكاناً . وفي هذا يمكننا القول إن الصورة هذه احتلت موقعاً في مجال التعبير ، وحافظت على محتوى الذاكرة ، بعكس الواقع المتجدد . ولعل الجسد كما ذكرنا واحد من الموضوعات التي سلطت الكاميرا جهدها عليه ، فأظهرته بحيوية منتجة وليست تسجيلية ، ووظفت الحكاية ، والمروية التي يرويها لصالح حركة الواقع آنياً ومستقبلاً . فرقصة الباليه وحركة نماذج المسرح مثلا ً ظهرت على نوع من الفعالية بما يُغني الواقع ويحرّكه ، بسبب التقنية التي جاهدت الكاميرا على عكسه عبر الصورة ، وهي بالتالي ساهمت في تصعيد حركة المشهد وليس تسجيله ونقله فحسب . إن التقنية انبثقت من عين الكاميرا وعين المصوّر وذلك بتكيّف نوعي وإبداعي . وبذلك أسفرت عن صورة صافية جلية كما سنرى في نتاج الفنانين .
الفنان (  سفين حميد ) يأخذنا إلى عالم الجسد معبّراً من خلاله عن المرونة التي تقود إلى مرونة الحياة واستجابتها للسعي الذاتي في حوار الواقع . لقد اختار الفنان خلفية بالأسود لتجسيد مشهد الرقص الجسدي ، الذي هو نوع من الأداء المسرحي . وهذه الرقصات تؤدى بثنائية الأنثى والذكر باعتبارهما عنوان الجمال في الوجود من خلال حركة جسديهما المرنين. كذلك يكشف التداول بين الجسدين عن الصلة المعرفية المكملة لبعضها عبر توائم الجسدين . وهي أقرب إلى رقصة الباليه . إن الجسد له قابلية سرد ما لم تستطع اللغة على أدائه ، لذا من الملاحظ أن السرد الذي تؤديه الأجساد كان ضمن محاولة الاستجابة لمنظومة حوار جسدي صامت وعلى إيقاع متوازن ومنتظم فالفعل الذي يبديه جسد الأنثى ، يُلقي ردّة الفعل التي يقابلها الجسد الذكوري . هذا التوازي يفضي إلى حوار صامت يكشف عن مضامين سلوكية في كلا الجسدين . فالجسد في اللحظة التي يحاور جسد الآخر الثنائي فأنه يحاور نفسه بتداعي تكشفه الحركة الذاتية التي توزع سلوك الذات وسلوك الآخر . وأرى أن هذا يخص رؤية الكاميرا ورؤية الفنان لها ، في كونهما يجسدان الاستثنائي ويوائم بين المتباعد ، ليضعه ضمن سردية جسدية متقاربة . في حين يكون هذا الحوار بين مستوى أعلى ـ أنوثة ـ ومستوى أسفل ـ ذكورة ـ وذلك باستقبال الرجل الراقص لانفعالات الأنثى مستقبلاً إياها بتطويع وتليين قسمات الوجه ، دليل الحوار الأدائي . ومثل هذا يحدث أيضا من خلال قلب المعادلة بين موضع الأنثى وموضع الذكر . بمعنى تكون المرأة هي من يستقبل انفعالات الرجل . إن هذه الحوارات تنّم عن قدرة ذاتية في قبول الآخر حاولت الكاميرا أن تجسّده باقتدار وحيوية . وقد تكشّف هذا في صورة هي أقرب إلى البورتريه بين الاثنين ، حيث يظهر على وجه الرجل نوعاً من السؤال والانفعال المتراخي، بينما نرى وجه الأنثى يفضي إلى الرضا واكتمال الصورة على هيأته المنفتحة .
في صور أخرى نجده يقدم جسد الأنثى في عرضها للأزياء ، وبذلك منح الجسد بعداً ثقافياً دالاً على ممارسة التفاعل مع التقنية الحضارية ومن رؤى التطور والحداثة. فالجسد الأنثوي برشاقته وجماله الظاهر والمضمر وامتداده الطولي يُعطي بُعداً جمالياً يُسهم في تكملة ما ينتجه العقل من جماليات التشكيل المتمركز في ابتكار جمالية الزيّ بتوفر نوع من التلاؤم بين الجسد وزخرفة وطبيعة الزيّ. وقد عمد الفنان في عرضه هذا أن يوازن بين رشاقة الملابس ورشاقة الجسد ، بحيث يضعنا أمام حوارية توحي بالحركة الدالة عل تكيّف الجسد لما يرتديه ، وبالتالي تتسع عنده المجالات الحيوية لاستكمل الجمالية المركزية في العرض . فبين تعدد العارضات ، وثنائيها  ثم تفردها ، اختلفت إزاء هذا اللقطات في تركيزها على هذا الجزء من الجسد والزيّ أو ذاك ، حيث بدا الجسد كما لو أنه يستجيب لإيقاع سمفونية تتواتر سلالمها عبر إيقاعات الجسد وتلون وتباين حركته .أي ان الجسد يستجيب لما هو مؤثر خفي يتحكم ويحاور ما هو متوفر من إيماءات الجسد . ويحاول في صورة الدبكة الكردية أن يُجسّد البنية الروحية التي تنتظم عليها الرقصة الجماعية هذه ، والتي تعتمد على تعاقب في اصطفاف الأجساد الذكورية والأنثوية ، مما يُشكّل نسقاً هرمونياً واضحاً يسود المشهد من خلال تلقائية الحركة والانسجام والتكرار المعبّر عن سردية جسدية ترتبط بطبيعة الواقع والبيئة الجبلية التي تمنح الجسد مرونة وتلقائية تبر من خلال الفعاليات اليومية أو في أداء طقس كهذا . وهذا متأت من براعة الفنان في اختيار الزاوية المؤثرة والعاكسة للحركة الراقصة . صحيح أن الكاميرا تتابع ما يتحرك أمامها ، غير أن عين الفنان يوجه عين الكاميرا لالتقاط ما هو أكثر حيوية وتأثيراً في المشهد ، ناهيك عن البهجة الروحية التي تظهر عليها الوجوه وهي تمارس هذا الطقس الجميل والدال على الاستقرار المادي والروحي . إن الزيّ الذي تظهر عليه الأجساد ، سواء للنساء أو الرجال عكس البلاغة الشعبية التي عليها الملابس   الشعبية للكرد ، التي  منحت التنوع والتلون والبهاء الذي يعكس جمالاً مضافاً للطقس . إن البني الشعبية مجتمعة ، لاسيّما الزيّ الشعبي ساهمت في عكس الصورة الأكثر استيعاباً للموروث الكردي المتجسد بالدبكة الشعبية . وعدسة الكاميرا بما تتماثل  معه ببلاغة في التعبير ساهم في تصعيد دلالة الطقس بشكل عام .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الحصيري في ثلاثة أزمنة

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

موسيقى الاحد: احتفاليات 2025

تهـــــــريـــــج

عدد جديد من مجلة (المورد) المحكمة زاخر بالبحوث العلمية

مقالات ذات صلة

الطفولة بوصفها السّاحةَ الّتي تتوالى عليها الأحداثُ والمجرياتُ الّتي يمارسُها المبدعون
عام

الطفولة بوصفها السّاحةَ الّتي تتوالى عليها الأحداثُ والمجرياتُ الّتي يمارسُها المبدعون

استطلاع/ علاء المفرجي تتواصل المدى في الوقوف عند محطات الطفولة والنشأة الأولى عند عدد من مثقفينا ورموزنا الفكرية، ومن خلال حواراتهم مع المدى، وتكمنُ أهمّيّة المكان والطفولة بوصفها السّاحةَ الّتي تتوالى عليها الأحداثُ والمجرياتُ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram