انطلقت السيارة تتهادى وسط الحقول، حيث ألوان الخريف قد حوَّلَتْ النباتات والاشجار الى قطع فنية وكأنها معرض في الهواء الطلق لرسام الطبيعة العظيم ليفيتيان، هكذا كانت الرحلة الصغيرة في ريف هولندا الجميل، من مقاطعة فريسلاند باتجاه مقاطعة درينته التي تبعد عن مرسمي أربعين دقيقة ، هناك حيث يقام معرض جميل كنت انتظره منذ وقت طويل، وهو معرض (ريبين ومعاصروه) الذي يضم لوحات ايليا ريبين وعمالقة الفن الروسي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. الجو بارد وانا أسير خطواتي الاخيرة باتجاه باب المتحف الذي بانت أنواره من بعيد، وقبل ان ادخل، ظهر في ركن البناية المقابلة للمتحف عازف موسيقى جوال، يقف هناك وهو يعزف على آلة الكمان ويضع على الارض قبعته التي تلتمع بداخلها قطع قليلة من النقود، تجاوزته ببضع خطوات، لكني توقفت وعدت أدراجي نحوه ووضعت في قبعته بعض ما تيسر وانا اقول له مازحاً ( كيف أحوالك ايها الزميل؟).
في داخل المتحف فاجأتني لوحة ريبين وأيقونة الفن الروسي كله (ساحبي السفينة على ضفة الفولغا) والتي كانت في مقدمة المعروضات، ويظهر فيها مجموعة من الرجال بوجوههم المتعبة التي لوحتها الشمس، وهم يجرون سفينة بالحبال التي لُفَّتْ على صدورهم، رسمها بشكل مستطيل أفقي كي يوصل لنا هذا الرسام العبقري الفعل الذي يقوم به هؤلاء وكذلك يشعرنا بامتداد النهر الذي يضيع مع الأفق، رسم ريبين كل ذلك بعبقرية جعلت مؤرخي الفن يطلقون على هذه اللوحة تسمية (الحراسة الليلية) الروسية، وذلك لمقارنتها بلوحة ريمبرانت ذائعة الصيت والتي تحمل هذا الاسم. ألتفتُ نحو الجهة المقابلة في نفس القاعة لأجد تولستوي ينتظرني بثوبه الأبيض الفضفاض، حيث رسمه ريبين وهو يقف حافياً بملابسه البسيطة وهو يضع كفيه داخل حزامه كأي فلاح روسي. أسير ببطء داخل القاعة وانا اشعر بقوة الرسم وجماله وتأثيره، أفكر بسحر هذا الرسام وامثاله من الذين تَرَكُوا لنا كل هذا القدر من مهابة الرسم وعظمة الإبداع، وقبل ان استفيق من افكاري هذه، واجهتني مباشرة لوحة (وداع الجندي) حيث أرى كل أهالي القرية التي رسمها ريبين قد جاءوا لوداع الشاب المقاتل بحرب روسيا مع الأتراك، الجندي يحتضن زوجته الشابة ويقف بجانبهم ابنهم الصغير، والقرويون يلتفون حولهم واجمين وهم يفكرون بمصير هذا الشاب الذاهب الى الحرب، بينما يظهر الأفق الواسع الذي يطل من فتحة الباب على نهاية لا يعلم بها احداً. هكذا صوَّرَ ريبين هذا المشهد في واحدة من اجمل أعماله وأكثرها قوة وتأثيراً الى يومنا هذا، حيث الحروب مازالت تأخذ منا الكثير. اخرج من دراما ريبين وادخل الصالة التي تعرض فيها مجموعة من اعمال الطبيعة الروسية الساحرة، لأقف امام واحد من اكثر رسامي روسيا شعبية وأعظم من رسم روح الطبيعة الروسية وسحر غاباتها وجمال مساحاتها الخضراء، انه رسّام الطبيعة الاول في روسيا إيفان شيشكين، الذي يجعلك تشم رائحة الغابات والطحالب التي تنتشر فوق الأنهر والأغصان المتكسرة، هنا تنسى المتحف وقاعة العرض وتشعر انك ترافق هذا الرسام في مغامراته وهو يجوب الغابات بحثاً لزاوية مناسبة للرسم.
لا يمكن الوقوف هنا عند جميع الرسامين الذين اجتمعوا في هذا المعرض الكبير والممتع، لكني بالتأكيد سوف لن انسى التوقف امام رسّام يمثل انتقالة كبيرة في الفن الروسي وهو العبقري ميخائيل نستروف الذي خطا بالرسم نحو منطقة فيها الكثير من الرمزية والحداثة في رسم مشاهده وشخصياته التي تبدو ساهمة مثل ملائكة او قديسين. كانت متعة بصرية كبيرة وفرصة نادرة لمشاهدة هذا المعرض والعيش بين اجواء هؤلاء المُلَوِنين العباقرة الذين يعيدوننا في كل مرة الى معنى الرسم وقيمته وجمال حضوره التاريخي المؤثر. انتهيت من المعرض وعند المغادرة داهمتني عند البوابة صورة كبيرة بالاسود والابيض يظهر فيها اعظم الفنانين الروس في تلك الفترة يتوسطهم رمز الفن الروسي ريبين، ومكتوب بجانب الصورة (هل انت احد عباقرة الرسم الروسي؟ إذن عليك ان تكون موجوداً في هذه الصورة.)
سحر الفن الروسي
[post-views]
نشر في: 6 يناير, 2017: 06:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...