جورج حنا لم يمت شهيداً في ساحة حرب، ولكنه مات شهيداً في سبيل فكره، ناضل من اجل تحقيقها طوال حياته، واذا كان قد غاب عن الدنيا قبل ان يراها تحققت كاملاً، ولكنه ذهب مطمئناً اذ رأى طلائع تحقيقها. كامل الجادرجي..الرجل الديمقراطي الحر..والرجل العربي القائد..
والرجل الخلوق والخلاق.. كامل الجادرجي هذا، عاش حياة النضال في سبيل فكرته الديمقراطية الحرة.. واذ غيبه الموت، ترك لاشياعه في الحزب الذي اسسه وقاده –الحزب الوطني الديمقراطي –متابعة العمل بالرسالة التي رفعوا لواءها. ماتوقف عن النضال، حتى في حين اصبح مسناً ومتعباً ولا اوقفته عن النضال، المنافي والحبوس، التي شرفها كامل الجادرجي بوجوده فيها مرات ومرات.. فكان الرجل الذي نخشع لذكراه اليوم، المثل الحي للانسان العربي، اللا اكثر منه اخلاصا لعروبته، واللا اكثر منه اخلاصا في انسانيته واللا اكثر منه تفهما للقضايا العربية المصيرية. قبل ان عرفته شخصياً كنت اعرف عنه ما يشوقني الى ان اجتمع معه وجها لوجه فاجأتني الفرصة بعد ثورة عام 1958 اذ كنت قبلها على اللائحة السوداء في القطر العربي الشقيق لا يسمح لي بدخوله والتعرف عن كثب الى شعبه الجبار في كفاحه ضد الاستعمار وضد حليفته الرجعية ، المالكة سعيداً في العهد- الملكي النور سعيدي -... تتحدى شعبا جبارا ليس سهلا ان يتحداه احد. ما ان وصلت الى بغداد حتى شرفني هذا الرجل الكبير بزيارته لي بالفندق في اليوم التالي لوصولي، ومن اللحظة الاولى وجدتني امام رجل هو صفوة الاخلاص لعروبته وصفوة الانسانية في اخلاقه..عربي ينشد لامته ما تستحقه من العزة والكرامة والحرية حرمها منها الاستعمار في العهد المباد، وقد جاءت اليوم الفرصة لتصفية الحساب بيننا وبينه. احببته من اول نظرة..وجه قلما تفراقه الابتسامة الحلوة..وقلب مفتوح لكل انسان.. وكلمته هي كلمة الحق، لا مواربة فيها ولا مداورة..تقدمي ليس من يشك بتقدميته..مخلص لشعبه، ومتفان في خدمة الشعب الذي احب من صميم قلبه، كما كان الشعب يحبه من صميم قلبه. وشرفني هذا الرجل الكبير بصداقته.. فكانت صداقته عندي من أغلى الصداقات..فكلما كنت اسمع بقدومه الى لبنان، اذهب على التوالي حيث هو يكون، لأخذ منه الحقيقة العراقية، واعرف رأيه فيما عقب الثورة من احداث ، اختلفت فيه الاراء والاقوال، كل يقول فيها حسبما هو يرغب في ان تكون فمن كامل الجادرجي وحده، تأخذ الحقيقة كما هي، اذ هو براء من أي تحيز شخصي لا يهتم الا بالعمل من اجل ان يحصل الشعب العراقي واشقاؤه في الاقطار العربية الاخرى على حقهم، في الاستقلال والعزة والكرامة في حكم ديمقراطي تقدمي لايظلم فيه احد، ولا يدان فيه احد، الا من يستحق الادانة ومنذ ذلك الحين حتى الامس القريب، كنا نلتقي معا بين ان واخر..اسأله رأيه، ويتنازل هو ويسألني رأيي.. فأخرج من اللقاء وكأني في قلب العراق، اذ ليس من يعرف الحقيقة واصدق من يقولها اكثر من كامل الجادرجي ، فهو اذا اعتمد مبدأ او اعتنق عقيدة يخلص لها، ويعمل لها، ويناضل في سبيلها، متى كانت تنيل شعبه العراقي والشعوب العربية الشقيقة ، ما تطمح اليه من حرية وتقدم ورقي، يتسع صدره لكل نقد، متى كان الناقد مخلصا في نقده اخلاصه هو لعقيدته ومبدئه. لم يكن كامل الجادرجي هو من قام بالثورة وقادها الى النصر وانما جاءت ثورة الرابع عشر من تموز، من وحي فكرته الديمقراطية والتقدمية وبقدر ما ابهجت كل التقدميين العرب وغير العرب، بهذا القدر نفسه بل اكثر منه، كانت نقمة الاستعمار وأهل الرجعة عليها.. يحاولون ما امكنهم مقاومتها، وتضيع مكاسبها. كانت الثورة بالاصل ثورة وطنية شعبية تقدمية ولكنها ما لبثت ان اخرجت عن خطها الصاعد، عندما اشتدت نقمة الاستعمار وعملائه عليها.. مستعملين كل ما لديهم من وسائل اعلامية وغير اعلامية، وناجحين في اثارة الفئات الوطنية على بعضها تارة باسم القومية والوحدة وطورا بالتهويل بفزاعة الخطر الشيوعي المزعوم. انان نحن العرب بأمس الحاجة الى قيادات شعبية من طراز كامل الجادرجي.. علما واخلاقا واخلاصا.. لاسيما في هذه الايام العصيبة التي نمر بها ، فنكبة الخامس من شهر حزيران الذي مضى ما اظنها كانت تكون كما كانت ولا كان حصل ما حصل قبلها وبعدها لو كانت كل القوى التقدمية في البلاد العربية وقفت وقفة واحدة، وتركت خلافاتها الصغيرة ونظمت نفسها تنظيما واحدا على اساس عملي واخلاقي واخلاصي، اما وقد حصل ما حصل ، وما فات..فات ، فعلى القوى التقدمية كلها، وفي كل بلد عربي ان تعيد النظر بتفكيرها وباسليب نضالها وان ترص صفوفها وتمشي في الطريق التي مشاها الرجل التقدمي الكبير كامل الجادرجي، ان القوى التقدمية وحدها تستطيع بعد ان افلست القوى السياسية والاجتماعية العربية التقليدية السائرة الان في طريق الانهار، ان ترتفع الى مستوى مسؤولية مجابهة اخطار الوجود الاستعماري الصهيوني في دنيا العرب. ان العدو الصهوني الذي شكه الاستعمار خنجرا في قلوبنا يتربص بنا، وهو يدافع عن الاستعمار الذي خلق منه دولة اسمها دولة اسرائيل، لايكف عن شن العدوان تلو العدوان مرة على هذه الدولة العربية ومرة على تلكز وليس هذا بعجيب م
الجادرجي مات شهيداً في سبيل فكرة ناضل من اجلها
نشر في: 10 فبراير, 2010: 04:47 م