حسناً فعل رئيس حكومتنا بتعديل موقفه من التواجد التركي في شمال العراق، وتدخله المستمر في شؤوننا الداخلية. فقد أوحت تصريحاته، خلال المؤتمر المشترك مع نظيره التركي، بوجود مبرم اتفاق مع أنقرة على سحب قوات الأخيرة من معسكر بعشيقة.
وما زاد هذا اللبس والارتباك، إحجام الضيف التركي عن الإشارة إلى الانسحاب، والاكتفاء بالحديث عن "تسوية مُرضية"، مع تلويح مبطّن باشتراط طرد مقاتلي الـ pkk من سنجار.
وكان متحدثون رسميون وشبه رسميين قد سوّقوا، طيلة أيام سفرة يلدريم الى العراق، الى نصر دبلوماسي تحققه الحكومة العراقية في علاقتها مع تركيا الاردوغانية، مبشّرين بصفحة جديدة من العلاقات الثنائية.
إلا أنّ التطورات التي حدثت لاحقاً، يبدو أنها أسهمت في تبديل الموقف العراقي الرسمي، وإعادته إلى توازنه المطلوب، بعد حفلة النصر الكاذبة. فقد اكتشفنا قيام وزراء ضمن الوفد التركي بزيارة معسكر بعشيقة، بالتزامن مع مهاتفة أردوغان لجنوده المرابطين قرب الموصل. فاقم ذلك التصعيد الذي لوّح به يلدريم، بعد عودته الى إسطنبول، بتوسيع تدخل بلاده في العراق في حال لم يتم إخراج مقاتلي العمال الكردستاني.
المواقف التركيّة، التي تلت لقاءات يلدريم في بغداد وأربيل، لم تكشف تغيّراً جوهرياً في رؤية تركيا الارودغانية للعلاقة مع العراق. فالغطرسة والتعالي مازالا يمثلان السمة البارزة في مواقف حكومة العدالة والتنمية. والإملاءات التركية المبطنة والمعلنة عجزت المجاملات العراقية الرسمية عن تبديدها.
ايضا فان سلّة الملفات، التي كانت تنتظر يلدريم، كما زعم المتحدثون الحكوميون، كذّبها المؤتمر المشترك للعبادي ويلدريم. فلم نسمع، خلال المؤتمر، عن فتح ملف مياه دجلة والفرات، وهو ملف حيوي بالنسبة للعراق. ولم نرصد بوادر لإنهاء التدخّل في شؤون العراق، ولا تفسيراً مقنعاً للفيتو التركي على تحرير تلعفر رغم تطويقه منذ اكثر من شهر.
مظاهر الاحتفاء والاحتفال التي حظي بها رئيس الوزراء التركي، قيل إنها تضمنت مهرجاناً لقصائد واشعار أُنشدت في حضرة "مبعوث السلطان"، أكدت أنّ الحكومة تعتبر الزيارة بحد ذاتها نصراً دبلوماسياً حتى وإن لم تتمخض عن نتائج ملموسة بالنسبة للعراق.
لقد تبدّدت أوهام النصر الدبلوماسي بمجرد مغادرة يلدريم الى بلاده. عندها صمت أنصار "الدبلوماسية الناعمة"، وهم يشاهدون رئيس الوزراء العراقي يعود إلى لغة التهديد والوعيد والشروط التي يكرّرها منذ سنة دون جدوى.
الامر ذاته تكرّر مع رئيس الحكومة الأردني، الذي تعهدنا له باستثناء بضائع بلاده من الكمارك، الى جانب التعهد بإنشاء أنبوب لنقل نفط وغاز الجنوب الى ميناء العقبة من دون جدوى اقتصادية واضحة بالنسبة لنا. مقابل ذلك، لم نسمع صوتاً عراقياً يطالب الضيف الاردني باستبدال القائم بالاعمال بسفير مقيم، أو إلغاء الضغوطات التي تواجه العراقيين في مطارات الأردن. طبعاً لن نطالب بإلغاء فيزا الاردن، فثمن ذلك، على ما يبدو، سيكون أغلى من شحنات البترول شبه المجاني!
بالتأكيد، لا نعارض انفتاح العراق على دول الجوار، لا سيّما العربية منها. فلدينا مشتركات ثقافية وتاريخية، ومصالح أمنية واقتصادية، تحتم تطبيع العلاقات وتطويرها في المجالات كافة.
لكننا نؤشر لمنهج دبلوماسي "مختلّ" اعتمدته حكومات ما بعد 2003 في علاقاتها الخارجية. يستنسخ هذا المنهج الدبلوماسي طريقة الـ"دسكاونت" التي تعتمدها المتاجر لجذب الزبائن وتصريف البضائع الكاسدة. للاسف، هكذا فعلت دبلوماسيتنا لأجل إرضاء أطراف إقليمية شاركت في زعزعة استقرارنا الامني والسياسي والاقتصادي، وساهمت بنوع وآخر في ولادة داعش ومن قبلها القاعدة.
إلا ان الأفدح من هذا المنهج، هو استفحاله وتحوله الى عقدة نقص مزمنة تمنع دبلوماسيتنا من استثمار اختلالات دول الجوار، كما هو الحال في تركيا ودول أخرى، وتحويلها الى أوراق لتعزيز مصالحنا وتعظيمها. فالمصالح لا تحمى بالمجاملات ولا بعرضها على الزبائن بـ"خصومات" مغرية.
دبلوماسيّة الـ"دسكاونت"
[post-views]
نشر في: 11 يناير, 2017: 06:35 م