يمتلك فيلم التحريك الإماراتي "كرّومة" 12 دقيقة، 2016، الذي أخرجه الجزائري بوبكر بوخاري، مُقومات العمل الذي لا يؤمن بالجغرافيا وحيّزها الضيق، فجاء ليُخاطب الإنسان فينا، ويُخرج برفق شُحنة العاطفة، لنتفاعل مع كل مشهد، كي تدس الذاكرة خلاصة ما، وقيمة جوهر
يمتلك فيلم التحريك الإماراتي "كرّومة" 12 دقيقة، 2016، الذي أخرجه الجزائري بوبكر بوخاري، مُقومات العمل الذي لا يؤمن بالجغرافيا وحيّزها الضيق، فجاء ليُخاطب الإنسان فينا، ويُخرج برفق شُحنة العاطفة، لنتفاعل مع كل مشهد، كي تدس الذاكرة خلاصة ما، وقيمة جوهرية، ينتج عنها في المستقبل تصرف صائب، يمكننا من أن نطلق أحكاما على ما يُصادفنا من أحداث حياتية مختلفة، بوعي من المرجع السينمائي الذي يمثله الفيلم المذكور وقيمته، أو كإفراز نتج عنه دون أن ندري، المهم أن هناك الأثر الذي يتركه فيلم التحريك القصير "كرّومة" في نفسية المُلتقي.
جاءت قصة الفيلم التي يعكسها طفل غير طبيعي، متشابكة وعميقة، تفسر العلاقات البشرية وتشرحها، وتظهر ما الذي يمكن أن يكون عليه الإنسان، عن وعي منه أو عن جهل. الطفل "كرّومة" المأزوم والمُبتلى بجسد وبحالة غير طبيعية لم يكن طرفا فيها، لكن المجتمع حوّله رغم صغر سنّه إلى مسؤول مباشر عن حالته، وكل ذنبه أنه ولد مشوها بدون يدين، وربما بجناحي عصفور.
في المشهد الأول من الفيلم، أوحى المخرج بوبكر بوخاري بأن هناك حالة صحية معقّدة، وهذا ما بيّنته غرفة العمليات والإضاءة، والملاقط والحقن، وحتى ريش الطيور المتطاير لتأكيد الفكرة التي أوردتها، والتي لن نعرف كنهها إلا إذا تابعنا كل تفاصيل الفيلم، وبعد لحظة انتقل إلى مشهد آخر بعد أن جُسدت الفكرة وتم الإلمام بالحالة، حيث توقفت سيارة وخرج منها الوالدان، الأم، ومعها الأب الذي يحمل الطفل، بعد أن عجزا على معالجته، وضعه في سريره وهو ملفوف بشريط قماش بدون يدين، فيما الأم قامت بتدثيره والحزن يقطعها، ليحلق بنا المشهد أعلى العمارة، حيث القمر مكتمل، ما يُوحي بحدوث شيء ما، لأن البدر يحمل العديد من الدلالات الأسطورية لدى الشعوب والحضارات، ويرمز دائما إلى المعجزة، وكأنّ المشهد جاء ليُجهز المُتلقي إلى ما هو آت، حتى يعي جيدا الفكرة ويتقبلها، كما يهيئه لاستقبال الحالة التي يوّد المخرج تكريسها، لتتوالي بعدها المشاهد الأخرى، تظهر وتفسر علاقات هذا الطفل الذي ولد بشكل غير طبيعي مع الآخر.
سلّط المخرج الضوء على فكرة في غاية الأهمية، وهي كيفية تعامل الآخر مع الطفل المشوّه، أو الذي خلق بطريقة غير طبيعية، هذا الآخر الذي ينعكس في أكثر من جهة وطرف، من بينها الأسرة، التي وإن كانت نيتها دائما هي تقديم الأفضل والأحسن لابنها، لكن النية وحدها لا تكفي، كما حدث في الفيلم، حيث يحاول الوالدان التخفيف عنه، والبحث عن الأحسن له، لكن كيفية تقديم هذا الأحسن أضرّ نفسيته، وجعله يحس بأنه عالة عليهما وعلى المجتمع، حيث يراهما وهما يتشاجران عليه من حين لآخر، أو لا ينال الاهتمام اللازم، فمثلا عندما يلح الطفل على والده بأن يصطحبه معه على الدراجة، يرفض الوالد وينصرف، ينكسر الطفل ويعود إلى والدته علّها تعطيه بعض الحنان الذي يخفف عنه، يقترب منها لكنه يجدها منشغلة عنه بالقراءة، فينصرف إلى النافذة، ويتضاعف انكساره، وفي مشهد آخر يرن جرس الباب فتقوم الأم بفتحه، حيث تقدم الجارة هدية للأم، وعندما ترى الطفل تفزع وتفزعه معها، وهذا ما يجعل الأم تغضب وترجع الهدية للجارة، وفي نفس الوقت تنهر طفلها إلى درجة أنها أبكته، وأكثر من ذلك تحاول أن تنزع الشريط الذي يلف جسده بغضب، وكأنها تقول له لماذا لا تكون عاديا مثل الآخرين، لماذا لا تملك يدين، وهذا ما جعل الطفل ينزع الذراعين الخاصين بدميته، كي تماثله شكلا، كما أن هناك مشهدا آخر أشد ألما للطفل، وهذا عندما أراد الوالد تسجيله في المدرسة، لكن المديرة رفضت، وعندما عاد للبيت تشاجر مع الأم، أمام الطفل الذي أصبح يحس يوما بعد آخر بأنه عالة على المجتمع، كما أن الشارع لم يرحم هذا الطفل، حيث يرى بأن هناك ألعابا وحلويات وغيرها من الأشياء الأخرى التي تباع، لكنه لا يستطيع اقتناءها، لأنه لا يملك يدين مثل غيره من الأطفال، ما جعله يفر إلى سطح العمارة التي يقطن فيها، وهناك وجد متنفسا لحالته، بعد أن نسج علاقة تواصلية مع طيور الحمام، وأصبحت بالنسبة له الحياة والملجأ الذي يعود إليه، وقد وصلت هذه العلاقة بينهم إلى درجة أنها قامت بفتح الشريط الملتف على جسده، وحررته منه، وهذا ما شجعه أن يجرى، ويطلق العنان لذاته، حيث وصل به إلى حد أنه وجد نفسه على حافة السطح وسقط ، وفي هذا الوقت يصل والداه، حيث يحاول الأب مسك طرف الشريط كي لا يقع ابنه، لكنه لم يفلح ووقع من العمارة، ما جعل الأم تسرع خلفه كي ترى المشهد، لكن الوالد منعها من هذا واحتضنها باكيا، بعد أن ظنا بأنه سيموت بعد سقوطه، وبعد لحظة يفاجآن بطفلهما يرجع إلى السطح محلقا بجناحين مع الحمام، كأنه ملاك قادم من العالم الآخر.
جاءت لغة الفيلم المنطوقة مبهمة وغير مفهومة، من خلال أصوات الشخصيات المتداخلة، لكن في المقابل هناك قوة على المستوى السيميولوجي/ العلاماتي للفيلم، هذه القوة مكّنت من زرع لغة تواصلية مفهومة وسلسة فيه، حيث وصلت رسالته الإنسانية بسهولة تامة لدى المُتلقي، وقد ساعد على هذا حرفية المخرج، وتمكنه من هذا النوع السينمائي، الذي نسج الكل وركّبه وخلق منه لوحة متكاملة، من خلال احترام التفاصيل المشكلة للفيلم، بداية من تصميم الشخصيات وخلقها، العمل على الألوان، وتثبيت القاتمة منها، التي تجعل نفسية الملتقي تميل إلى الحزن والاتعاظ، حيث تعامل مع كل جزئية بذكاء وإبداع ظاهرين، خاصة المونتاج، حيث انتقل من مشهد لمشهد بطريقة إيقاعية متوازنة، مثلا عندما يركز على صورة البدر في أحد المشاهد الخارجية، يتنقل بسلاسة إلى مشهد آخر داخلي على طاولة الطعام حيث يتحول البدر إلى طبق عشاء، والمائدة إلى سرير نوم، وهكذا جاء التنقل في المشاهد الأخرى.
أنتج الفيلم ضمن برنامج المجتمع الإبداعي، وقد شارك في أكثر من 60 مهرجانا نظمت في العالم، كما تحصل على عديد الجوائز والتكريمات.