باريس/ صلاح حسن" ليس مهما أن نقرأ الكتب الفلسفية لكي نعرف ان الحرية أهم من الديكتاتورية " هذه واحدة من أراء وجمل كثيرة تخللها الفيلم الوثائقي ( بغداد – باريس ) سيرة شاعر منفي الذي عرض في باريس للمخرجة الفرنسية امانويل لاكرنج وتناولت فيه حياة الشاعر العراقي صلاح الحمداني المقيم في فرنسا منذ العام 1975 .
يصف الفيلم من خلال بور تريه عن حياة صلاح الحمداني عبر حوار تجريه معه المخرجة ، ومن خلال متابعة الكاميرا للشاعر متجولا في المناطق المحببة لنفسه في باريس، كنهر "السين" ومقبرة "بيير لاشز" والمناطق الباريسية القديمة والحارات الشعبية في هذه المدينة العريقة. الفيلم يتضمن قصائد بصوت الشاعر باللغتين العربية والفرنسية بالإضافة إلى لقطات ومقتطفات من فيلم شخصي كان قد صوره الحمداني في بغداد عام 2004 عندما جاء لزيارة ورؤية أهله بعد ثلاثين عاما من المنفى . تكمن أهمية هذا الفيلم كونه وثيقة مهمة تتطرق لموضوعة المنفي بشكل عام ولمرحلة المنفى التي عاشها هذا الشاعر في فرنسا وتكوينه الإبداعي الذي رافق تكوينه السياسي ورؤيته ومواقفه على كافة الأصعدة الإنسانية من المواجهة الفكرية وحتى الجسدية لأزلام النظام المقبور ومؤيديه في فرنسا من فرنسيين وعراقيين وعرب إلى مناهضته العلنية للدكتاتورية الصدامية وأدانته للحرب على العراق . فقد تعرض الشاعر قبل بدء الحرب على العراق وأثناء مظاهرة في باريس إلى الضرب المبرح من قبل مجموعة من العبثيين العراقيين كما يظهر ذلك في الفيلم . يسلط الفيلم الضوء على صلاح الحمداني الشاعر والفنان المسرحي والسينمائي الذي شارك مخرجا وممثلا في الكثير من المسرحيات والأفلام والمسلسلات التلفزيونية على الساحة الثقافية والفنية الفرنسية منذ نهاية السبعينات . وهو يكتب باللغتين العربية والفرنسية حيث جاء إلى منفاه الفرنسي نهاية عام 1974. أي بعد عام من خروجه من معتقلات وسجون العراق . يومها لم يكن يعرف اللغة الفرنسية بينما نشر له حتى الآن أكثر من سبعة وعشرين كتابا موزعا بين الشعر والسرد والقصة القصيرة والرواية من ضمنها عدة كتب شعرية ألفها مباشرة باللغة الفرنسية . نشرت قصائده بأكثر من انطولوجيا شعرية فرنسية بالإضافة لترجمة بعض من قصائده ونصوصه إلى عدة لغات توجت بكتاب مهم ضم مختارات من كتاباته وصدر مؤخرا في نيويورك بالانكليزية حمل عنوان : "بغداد حبيبتي". المخرجة امانويل لاكرج استطاعت بكاميراتها الذكية ومناخاتها الحميمة أن تقدم بور تريها لهذا الشاعر كشفت من خلاله أبعادا نفسية خبيئة من خلال تلك الصور المركبة كشخصية الشاعر نفسه ، صورا تجمع الدفء والبرودة في آن . برودة من الخارج ودفء من الداخل ولكن في توازن مدروس من اجل تقديم مناخات متناقضة لشخصية تعيش مثل هذه المناخات . وقد عملت من خلال المونتاج المتقن على مزج لقطات من الفيلم الذي صوره الحمداني في بغداد واللقطات التي صورتها هي في باريس لتبرز ذلك التناقض في المكان بين بغداد المهدمة الهرمة وباريس المنورة . وبالرغم من إن لقطات الحمداني كانت في النهار وخارجية وترصد الخراب العراقي الشامل ، كانت لقطات المخرجة ترصد مدينة باريس في لحظات الظل ولحظات الضوء في تناقض هو الأخر اقل ما يقال عنه انه تناقض التوازن .الصورة في هذا الفيلم بنقائها وباروناميتها وألوانها الصافية تكشف سر المدينة التي تدور فيها أحداث الفيلم .. المقبرة بوصفها مكانا يمكن التنزه به في أية لحظة ، ساحات باريس في المساء البراق وذلك التنوع في بشرات الناس الذين يمنحون هذه المدينة لونها الكوزموبوليتيكي . في الجانب الأخر وهو هنا بغداد في لقطات الحمداني تظهر الفوضى في اعلى تجلياتها حيث يمكننا ان نعقد مقارنة بين الوطن – المنفى ، بين المنفي العائد والمنفي المقيم وكأن المخرجة تريد ان تقول للمنفيين " ابقوا في منافيكم " فلا تغيير ولا هم يحزنون والوطن مجرد فكرة جميلة تصلح للكتابة . على مدى خمس وخمسين دقيقة هي مدة الفيلم ذي الإيقاع المتماسك والصور المدهشة تدور بنا المخرجة في فضاءات نفسية متنوعة لتكشف من خلالها حياة الناس والمكان والعلاقات التي يمكن ان تنشأ في هذه الفضاءات التي بدت معتمة ولكن غير مظلمة على أية حال . هناك دائما بقعة من الضوء يمكن ان ننفذ من خلالها . المنفي في هذا الفيلم ليس أنسانا سلبيا أبدا كما هو حال الكثير من المنفيين ، بل هو على العكس من ذلك شخص مبدع ومنتج وصاحب موقف مشرف حول المنفى إلى ورشة عمل وأنتج من خلالها ما يمكن ان يضعه في مصاف الناس الذين يشار لهم بالبنان.
فيلم " بغداد ـ باريس " سيرة شاعر منفي..أيها المنفيون ابقوا فـي منافيكم
نشر في: 12 فبراير, 2010: 05:17 م