النفس هي نفس الإنسان لا الإنسان نفسه، والفرق شديد.
من أقدم وأشهر ما قيل عن النفس هي مقولة الفيلسوف المعلم الإغريقي سقراط: "إعرف نفسك".
معرفة النفس تسبق أية خطوة للتربية الذاتية، فلولا معرفة النفس لا سبيل إلى تربية أو تغيير أو تطوير أو تدبير.
معرفة النفس ليست شأناً شخصياً محضاً، بل هي مسؤولية أخلاقية تتصل اتصالاً وثيقاً بدور الإنسان في مدينته/وطنه/عالمه.
كم مرّت بنا تلك العبارة المتداولة من دون أن تستوقفنا كثيراً أو قليلاً، برغم أنها ترسبت في قاع ذاكرتنا عبر زمن التعلم والمكابدة والسعي نحو المعرفة.
معرفة النفس، مسؤوليةً، عناية بالوجود أيضاً، زماناً ومكاناً، عندما يدرك المرء دوره في المدينة أو الوطن أو العالم. ولا دور للمرء في التدخل بشؤون الحياة العامة من دون هذه العناية/الاهتمام: الاهتمام بالنفس.
الجهل بالنفس جهل بالمحيط، وبالتالي جهل بما نريد ونرغب ونحلم ونرتجي لوجودنا من صورة مغايرة غير الصورة التي هو عليها.
أعترف، بدءاً، بأنني لم أتأمل تلك الحكمة الإغريقية، مثل الكثيرين، كما ينبغي. برغم أنها ترسبت، كما عند الكثيرين، في قيعان ذاكراتي.
لكن فيلسوفاً فرنسياً حديثاً شهيراً هو مَن لفت انتباهي، أخيراً، إلى طبقات تلك الحكمة، بخلاف بساطتها الظاهرية. إنه ميشيل فوكو، في سلسلة محاضرات جامعية ألقاها، عام 1982، على طلبته في الكوليج دو فرانس، ضمها كتاب له، لاحقاً، عنوانه "تأويل الذات".
جعل فوكو من تلك الحكمة مدخلاً أولاً، رئيساً، لسلسلته تلك.
عدّ بعض الدارسين والمعلقين كتابه هذا (تأويل الذات) منعطفاً مهماً في سيرة صاحب "تاريخ الجنون" على أساس انغماسه الشهير في بحث تاريخ القمع والإخضاع والتأطير السياسي والاجتماعي التي مورست بحق المجتمعات تحت مسميات عدة كالتعليم والعلاج والعقاب بما في ذلك الجامعات والمشافي التي هي تقنيات سلطوية مكرّسة للتوجيه القسري المرسوم.
وبعد أن كانت الذات/النفس بنية سلبية في دراساته السابقة (لهذه المحاضرات) ها هو يعيد الاعتبار لهذه الذات ويخلصها من سلبيتها ويقدمها على أنها لا تتحدد بمعرفة النفس، كما حققته من إجماع فلسفي، بل ينبغي أن تتحول إلى "اهتم بنفسك" من حيث إن المعرفة هي نصف الطريق إلى التغيير والمغامرة العقلية لبناء العالم من جديد، ذلك أن الاهتمام بالنفس هو اهتمام بالعالم والنظر إليه بمسؤولية المهتم لا العارف، حسب.
يضرب فوكو مثلاً بسقراط أثناء محاكمته على (جريمته التي تدعو للخزي والعار: التفلسف!) مدخلاً آخر للحظة إدراك الإنسان لدوره في أن "يهتم" لا أن "يعرف" فقط.
أما الاقتباس الآخر الذي يسوقه فوكو فهو محاورة سقراط وألقيبيادس (جنرال أرستقراطي وزعيم أثيني) ملخصها أن سقراط يقرّع ألقيبيادس هذا لجهله المشين وعدم معرفته، وبالتالي عدم "اهتمامه" بمدينته وسكانها، عندما كان هذا (الاهتمام) مرتبطاً بالسياسة والسلطة.
ويفسر فوكو ذلك: "هذا المفهوم المتعلق بالاهتمام بالنفس مرتبط بعدم كفاية تربية ألقيبيادس، ولكن، ومن خلالها بالتأكيد، فإن التربية الأثينية نفسها هي التي كانت غير كافية وذلك من خلال معلمين: (أحدهم) المعلم التربوي، أو البيداغوجي، لأن أستاذ ألقيبيادس لا قيمة له. كان عبداً جاهلاً، مع أن التربية موضوع في غاية الأهمية، إذ كيف يمكن أن نؤكل شاباً أرستقراطياً وموجها نحو العمل السياسي إلى جاهل؟".
سؤال: ماذا بشأن التربية العراقية؟
الاقتباس من كتاب "تأويل الذات"، ميشيل فوكو، ترجمة د. الزواوي بغوره، دار الطليعة، 2011.
فوكو.. درس في التربية
[post-views]
نشر في: 30 يناير, 2017: 09:01 م