2-5
طفل في مثل سنّي، كان من الصعب عليه تخيل المسافات التي تفصل بين المدن التي كان علينا زيارتها، سامراء والكاظمية والنجف والكوفة وكربلاء، ثم المرور ببغداد في رحلة الذهاب والإياب، كان من الصعب عليه التكهن بالوقت الذي تستغرقه كل رحلة منا، مثلما من الصعب عليه معرفة الأسباب المنطقية التي تجعل الناس يتحملون كل هذا العناء، مشقة الطريق من أجل تلك الزيارات، خاصة إذا عرفنا، أن الطرق في ذلك الوقت لم تكن معبدة، بل ترابية تفيض وتتحول إلى غرين طيني في أيام الشتاء وفي أوقات إشتداد المطر. نحن نتحدث هنا عن زمن آخر. بداية الستينيات، 1961 أو 1962، لا أدري بالضبط، لكنه أحد هذين العامين، ولا يمكن أن يكون بعد ذلك، لأن أبي سيفقد سيارته عام 1963.
في ذلك الزمن، لم يكن الإيمان الديني قد وصل إلى مرحلة التعصب الأعمى كما هو عليه اليوم. التعصب والتطرّف والإرهاب، قتل الآخر بسبب هويته ومذهبه، هي قناعات وسلوكيات نشأت مع ترسخ الإسلام السياسي، الذي بدأ مسيرته أولاً بعد دخول الجيش السوفييتي إلى أفغانستان في 25 ديسمبر/كانون الاول 1979. المجاهدون والطالبان والقاعدة، هي الصورة المثالية للتطرّف الديني الذي جسّد طموحات الأيديولوجية السنيّة الوهابية التي تطمح بالسيطرة على العالم الإسلامي بالقوة. لا ننسى أن الوهابية التي نشأت عليها المملكة العربية السعودية أولاً وقبل أن يحمل لواءها لاحقاً أسامة بن لادن، حاولت وعلى مر التاريخ سحق المذاهب الأخرى بحجة محاربة البدع الشركية، لكنها لم تنجح إلا بشكل محدود. عام 1926، مثلاً عند هدم السلطات السعودية وفي زمن الملك عبدالعزيز بن سعود لقبور الشيعة في مقبرة البقيع في المدينة أو في دعم مشايخ اليمن ضد الحكم الجمهوري الناشيء في اليمن في سنوات الستينيات ضد الأقليات الدينية الأخرى، لكن دخول الروس إلى العاصمة الأفغانية كابول، ونجاح الثورة الإيرانية، جعلا الوهابية تكشّر عن أنيابها. لكن في ذلك الوقت، في سنوات الستينيات لم يكن هناك مكان لا للتطرف الديني السنّي ولا الشيعي، خاصة في العراق، كان الإسلام الشعبي هو السائد هناك. اليوم لو نظرت إلى إسلام جدي أو جدتي، اللذين لا شك في ايمانهما أبداً، لوجدتهما أكثر ليبرالية من ليبرالييّ هذا الزمان. لذلك لم تحمل الزيارات الحسينية الملامح القوية التي تحملها اليوم. كانت تقليداً شبيه بالزيارات الدينية هذه التي يمارسها الناس في الغرب، صحيح أنها حافظت على صفتها الدينية الطابع، لكنها من الناحية الأخرى حملت أيضاً ملامح رحلة لمدن أخرى، أرتبط بها الأقتصاد السائد. لذلك كانت المدن الدينية هذه بمثابة مراكز إقتصادية، في كربلاء والنجف والكوفة والكاظمية، نمت طبقة أثرياء من الشيعة، بينما في سامراء نمت بالتوازي مع طبقة من الشيعة الأغنياء، أيضاً طبقة من السنّة الأغنياء، إن لم تنمو هناك وعلى مرّ التاريخ، طبقة أغنياء يهود أيضاً، على الأقل حتى 1951، عام الخروج الكبير ليهود العراق.
كلما عُدت إلى ذلك الوقت، وإلى الطقوس تلك وقارنتها مع ممارسة الطقوس نفسها في أيامنا هذه، كلما لاحظت الهوّة التي فصلت بين الزمنين. كانت المواكب الحسينية التي تُسمى بالسبايات تبدأ في مدينة العمارة في مسيرتها من المدخل الجنوبي لشارع المدينة الرئيسي، شارع بغداد، وتنتهي بالتفرق عند حسينية الحاج عبدالغفار. كان لكل محلة موكبها مثلما لكل موكب شاعره أو رادوده الخاص، وكانت مسيرة الموكب تبدأ بضاربي الزنجيل الذين يمشون على صفين متوازيين يفصل بينهما قرابة ستة أمتار تقريبا، وفي وسطهم يسير ضاربو النقارة والطبول والصناجات ورؤساء المحلة.
يتبع
هل هذه إذن بغداد؟
[post-views]
نشر في: 31 يناير, 2017: 09:01 م