فوق أريكة من خشب الساج المغطاة بشرشف أحمر سميك، مع مجموعة من الأرائك المصطفة المغطاة بذات الشرشف، وفي برّانية الشيخ كاظم السماوي؛ وسط عكود الغربي القديم في السماوة, وبعد سلسلة تفرعات متشابكة؛ تصل إلى باب البرّانية، ومن ثم الدخول الى باحتها مجتازاً ال
فوق أريكة من خشب الساج المغطاة بشرشف أحمر سميك، مع مجموعة من الأرائك المصطفة المغطاة بذات الشرشف، وفي برّانية الشيخ كاظم السماوي؛ وسط عكود الغربي القديم في السماوة, وبعد سلسلة تفرعات متشابكة؛ تصل إلى باب البرّانية، ومن ثم الدخول الى باحتها مجتازاً النخلة الوحيدة المغروسة منذ اكثر من ثلاثين سنة وسط الباحة تصل إلى المكتبة العتيقة، حيث تكمن الحكايات بعلب كارتونية وضعت تحت الأرائك. حكايات كساها ثوب الرطوبة والتعتيق بسيل من ماء الزمن الغابر، لتتسع حروفها على الورق الأسمر وصولاً للتلاشي أحيانا؛ لتتحول إلى رقع حبرية زرقاء مصابة بالماء المزمن ،هنا بين كدس الورق المغطى، تصطف الحكايات في طابور انتظار يد متصفح ما؛ لتمتد مزيحة الغبار عنها.
الذاكرة الطرية الحيّة
بين رفوف المكتبة المرتفعة عن الأرض بصورة نسبية؛ تطل منها الأوراق المتناثرة المتسللة من بين الأغلفة وأبواب المكتبة ذات الأقفال المرتبكة، هذه الأوراق المسمرّة المطلة تستقبل الداخل إليها بزعانف القصاصات التي تمثل حيوات السابقين من الذين قطنوا أرض السماوة. أسرار الماضي تمد الرؤوس ملوحة بالإقبال إليها؛ من اجل التصفح والكشف عن الخيط الأول لسر من الأسرار، محاولين رصف خرز مسبحة الأسرار المتناثرة بين جلادات الكتب. يحدث هذا كل مرة أثناء دخولي، فثوب الحيرة دائما ما يطوقني بعلامات الاستفهام، والسؤال ذاته يتكرر دائما لحظة المثول امام هذا الكم الورقي، لأسال نفسي: من أين سأبدأ أولى محاولات البحث عمّا أريد؟ وأين سوف أنتهي؟ أسئلة كثيرة تطوف برأسي عما تخفيه الكتب وزحامها والعلب المتناثرة، الدفاتر، قصاصات الورق، الصحف، الورق الأسمر، كل هذا يحيلني دائما إلى لحظات من الدهشة والفضول.. لكن هذه المرة سأتقدم نحوها، فأنا أريد الوصول إلى هذه الذاكرة الطرية الحيّة، ذاكرة بكر، راغباً بسبر أغوارها داخلا إلى الزمن المتوقف فيها.
عقد بيع ربع حصان
بحثت مع نفسي عن إذن بالدخول وعن بطاقة وتذكرة لهذا العبور، لا بأس فانا من الورثة الشرعيين لهذا المكان، فهو مسقط رأسي وأبي وجدي؛ وكل من اتصل بي من جهة الشيخ الراحل. فأنا رافع الشراشف التي تخزّن تحتها المزيد من الدفاتر والاوراق والحكايات، كي يظهر المختفي من الذي لم يكن عنوانه واضحا أو ظاهرا للعيان، فما تحت الأرائك جاء مختلفا عما جاء مبوبا بين صفوف المكتبة؛ رغم سمرة الكتب وتعتّقها على الجانب الأيمن منها. دخلت الباب الخشبي للبرانية بعد ان تفحصت المكتبة الكبيرة، فقادتني الرغبة لرفع شرشف أريكة في جانب اليمين، وبعد ان قلبت الدفاتر الموضوعة عليها؛ قارئا آخر مواليد ابناء العكد وابناء العائلة والجيران، مع تواريخ أخرى لوفيات ومواليد عديدة لأبناء السماوة وتواريخ مناسبات مثل تواريخ الختان، الزيجات، الحوادث، الأوبئة، الأمراض النادرة التي أصابت بعض سكان المدينة، أحداث سياسية، مدراء الدوائر الذين تغيروا، الحركات السياسية المقموعة، الاعتقالات، قدم الملك الفيصل التي كُسرت!!، القارب الذي غرق في الستينات، وعقد بيع ربع حصان على أحدهم، وغيرها الكثير الكثير..
أوائل الأشياء في السماوة
نعم، هذا التدوين اليومي كان من إحدى هوايات العم الراحل عبد الأمير الشيخ كاظم، رجل طويل ذو هيبة ، لم يعرف غير الزي العربي المكون من ( العقال، اليشماغ، البشت والصاية)، يمتلك حافظة قوية لتاريخ العراق الحديث وتحولاته وأحداثه وكل شيء كان يجري و يحدث تجده مدونا نده في قصاصة، أو ورقة لتتحول تلك المعلومات إلى دفاتر موزعة هنا وهناك وكل دفتر يحمل عامه وسنته.. وأيضا، فقد دون البدايات الاولى لكل شيء دخل السماوة، ففي سجل لديه دوّن فيه أول كيس طحين في السماوة وأول سيارة ابتاعها تاجر ما، وأول رصاصة انطلقت بوجه الانكليز في ثورة العشرين ، وأول لعبة كرة قدم جرت، وأول مدرسة شيدت، وأول صيدلاني وطبيب تم تعيينه، تشييد جامع، حسينية، انطلاق تظاهرة ، لعبة كرة قدم، دخول أجنبي، من هو حاصل على الماجستير والدكتواره ، وهكذا دواليك إلى كل أول في السماوة .!!
مدير الأمن يستولي على تحفة
إلا أن هذه التحفة أخذها منه أحد مدراء الأمن الذين توالوا على المدينة في زمن البعث، أخذها بحجة الاطلاع عليها لكن دون رجعة !!، رحل الشيخ ابو عدنان وفي نفسه غصة على ذلك الإرث النادر، والذي لم يسبقه إليه أحد من قبل!! وجدت أيضا مجمل تاريخ فيضانات السماوة والعراق، أيضا ما فعله البعثيون والشيوعيون والدعاة، الاضطرابات والمتغيرات الاقتصادية، كل هذه الأمور كانت عبارة عن أصوات تخرج على هيئة أحداث تخترق صمت البرانية في مساء شتوي .. يستمر البحث بين ركام الورق الأسمر المغبر؛ لأجد مخطوطات شعرية لشعراء من العائلة او من الذين ارادوا وضعها هنا، وأخرى تمثل قصاصات لفكرة لمعت حينها برأس أحدهم دونها ودسها في كتاب قديم كتعليق على معلومة فقهية أو أدبية أو تأريخية..
عكد دبعن
خطف بصري عنكبوت كان قد مرّ على أحد الدفاتر، وقد لمحت عنوانا عليه كتب بالحبر الجاف الأزرق: (عكد دبعن) أثارني الفضول لمعرفة ما خلف هذا العنوان، فتعلقي بهذا العكد دائما ما يشغلني عن الأشياء الأخرى، فهو في عينيّ ليس زقاقا أو عگد أو (عجد) على اللهجة السماوية، انه حبل سريّ يمد الروح بغذاء جمالي، يود البقاء أكثر داخل المشيمة، وأنا أمر على العنوان سمعت قرع أقدام الذين مروا من هنا وأصوات الساكنين، لاسيما الراحل حنون القصاب الساكن على يمينه ، أو هدوء عباس شناوه أبو هادي الذي يقطن في بيت عند آخره قبل التفريعة متقابلا مع بيتيّ ألـ بو كحيلة، أو نظرات علي أبو عيون جريئة – هكذا كنّا نسميه في العجد- وفي العمق باب ألـ طربال البيضاء التي تعكس بياض الساكنين في هذا البيت، هناك عند مقدمتها يقف وسام أبو كحيلة وعبد الله عـچوچي يتفقان على موعد للعب الدعابل، مكان اللعب على يمين باب الـ طربال البيضاء حيث ينتهي الامتداد عند باب بيتنا بيت الشيوخ المحاذي لجدار (خرابة ونّه).
شقاوة العكد
أزحت العنكبوت، سحبت الدفتر، نفضت غباره تصفحت الورق؛ وجدت أولى الحكايات وأول إجابة لتساؤل بقى يشكل حيرة لدى كثيرين من أبناء هذا الجيل، نعم ها هو السؤال أمامي: لماذا سمي العكد (بعكد دبعن )!؟ وهكذا توالت بعده الاسئلة والمناسبات التي رافقت التسميات عن
العكود الأخرى، والشوارع وأغلب تسميات السماوة، نعم لقد وجدتها!!، وجدت السر من خلف هذه التسميات، لماذا هذا عكد اليهود في الشرقي!! ولماذا هذا عكد الشوربة في القشلة مثلا.! عنوانات فتحت شهية التخيل والشغف بالمعرفة؛ والبحث في مخفيات المدينة الغارقة بذاكرة غير منقب عنها، التسميات فتحت ثريا معانيها وشفراتها التي شكلت حيرة للكثير منا. دبعن، لماذا دبعن؟ تشير الورقة الأولى إلى العام 1915 من القرن العشرين حيث أن امرأة عجوز غريبة وصلت السماوة وسكنت هذا الدهليز وكانت ذا لسان سليط وضخمة جدا حتى سيطرت على زمام أمور العكد، وان الداخل والخارج والمار لا يسلم من لسانها، أو حتى ضربه، ووفقا لقانون دبعن فقط سكان العكد مسموح لهم بالدخول؛ وان الأهالي من السماوة كانوا يخشون الدخول إليه إلا للضرورات القصوى التي تجبرهم على الدخول، ومن ذاك التأريخ التصق اسم العجوز بالعكد.!!.
لماذا سمي عكد اليهود؟
وبعد ترك منطقة الغربي متجها إلى منطقة الشرقي، أثناء الانتقال من عكد الصفارين الذي اختفى تماما؛ مرورا من عمق السوق المسقف وعلى بضعة أمتار ندخل سوق الحدادين؛ الذي في مقدمته محل الشاعر الراحل مسلم الشيخ سعد الذي كان يبيع البهارات، نعبره إلى جانبه الايمن لنصل إلى عكد مغلق عند آخره، وهو عكد اليهود!! نعم اليهود كانوا في السماوة وهم على عدد الاصابع قبل تهجيرهم، لكن هذا العكد ليس لهم ولم يسكنوا فيه !! لكن لماذا هذه التسمية، تقول الورقة الماثلة امامي بتاريخها العائد إلى العام 1914 بأن الراحل السيد طفار شيخ الشرقيين قد أطلق هذه التسمية على هذا المكان لأن أهله لا يشتركون مطلقا بالمعارك التي تنشب بين اهالي الشرقي والغربي من طرفي السماوة!! وكانت اغلب المعارك تحدث عند الخط المستقيم الذي يخترق السوق المسقف؛ الفاصل بين الشرقي والغربي، ليتحول هذا الخط الذي تطور وصار مجرى لمياه الصرف الصحي: الى خط وهمي شبه اداري فاصل بين المنطقتين؛ وفي احدى جلسات الفصل وحل المشكلات؛ سال السيد طفار عن سكان هذا الزقاق الضيق، هل شاركوا في المعركة ؟ على اعتبار انهم يتبعون إلى منطقته في الشرقي، فعلم بانهم لا مع الشرقيين ولا الغربيين فهم اختاروا البقاء في بيوتهم اثناء المعارك، فقال عنهم: " عمي شنو انتم يهود"!.
بغدادي يسمي أحد عكود السماوة
عيني الان سقطت على عبارة مكتوبة توضح تسمية احد العكود الاخرى، وهو عكد (العرايا) !! تخيلوا انهم عراة في السماوة!! وهكذا شكل هذا الاسم صورة في المخيلة الجمعية لنا، وأن هذا المكان سكانه عراة من غير ملابس!! إلا أن الورقة تشير الى مناسبة ارتبطت بهذه التسمية وأن رجلا بغداديا دخل العكد في العام 1917 ورأى أطفاله كلهم عراة، وقال لماذا هؤلاء (مصاليخ)؟!! وسمعه أهل المنطقة ليلصقوا هذه التسمية بزقاقهم وتطور اللفظ حتى صار اسمه عكد العرايا!! وفي المضي من العراة أو(المصاليخ) نستمر بالبحث حتى نقف في عكد (الدخل) ويلفظ بتفخيم اللام على لهجة السماويين، وهذه التسمية تشكل نفسها تأويلا في إشارة إلى (دخل القيمة المالية)!! وقد تكون احالته على انه يحوي على مصرف أو بنك مالي، أو أن أهله من ذوي رؤوس الأموال؟، لكن الواقع المعيشي للأهالي ليست له علاقة بهذه المفاهيم أبدا، تشير الورقة إلى مناسبة التسمية، ففي العام 1907، دخل جندي عثماني على أهالي المنطقة هاربا من المعارك التي كانت تحدث بين العثمانيين وأهالي السماوة، دخل هذا الرجل عليهم طالبا النجدة فرحبوا به وتركوه يعيش بينهم، لتلتصق دخلته تلك بالمكان !! ومعروف عن أهل منطقة الشرقي بأنهم ثوريون مقاومون رافضون ولديهم مواقف كثيرة تروى، ومنها التي حدثت عن نهاية القرن التاسع عشر حيث تقدم العثمانيون بنيّة الدخول عسكريا الى منطقتهم وتصدى الأهالي لهذا التدخل ودحروا العثمانين دحرا حتى أطلق على إحدى العكود بعكد (الداحرة) هكذا أشارت الأوراق إلى تلك الحادثة.
"الشوربة" الانكليزية تحتل احد العكود
وبالاتجاه إلى (الصوب) الصغير القشلة بعد عبور جسر المشاة وندخل أزقتها يظهر امامنا بعد اجتياز جامع السماوة الكبير عكد (الشوربة)، ولكن لماذا سمي بهذه التسمية المرتبطة بهذه الأكلة الشهيرة ، فالقصة تقول: أن الانكليز عندما دخلوا السماوة في مطلع القرن الشعرين؛ اتخذوا من هذا الزقاق مكانا لتوزيع طعام (الشوربة) على الجنود وكان الاهالي من الفقراء يتجمعون حولهم من أجل الحصول على الطعام كل يوم وبقت هذه الحالة حتى خروجهم من الاراضي العراقية لكن لفظة (الشوربة) بقت لصيقة بهذا المكان.
وعند اجتياز هذا العكد بعد عبور الشارع الرئيس توغلا بالعمق سنصل إلى منطقة مسورة بسور كبير قفل الشوارع المحيطة به وهذا السور العالي يحمل صفة مقدسة عند الأهالي، وسمي هذا السور(بالخاتونة) حيث خصصت إحدى النساء من أصحاب الجاه ورؤوس الاموال جزءاً من أرضها لتكون مقبرة للأطفال وكان هذا عند مطلع القرن الماضي أيضا؛ وبقيت هذه التسمية إلى يومنا هذا وبقى السور وبقيت المقبرة دون إضافات ودون أن تمتد لها يد بعبث أو إعمار! قصص كثيرة تطوف حول أسباب تسميات الأمكنة في السماوة، وبقيت هذه التسميات تدور على الألسن على شكل حكايات تتناقلها الأجيال أبا عند جد، فمرة تقترب من الأسطورة ومرة أخرى ترتبط بواقعة ما قد وقعت وتكون ذات تأثير كبير على الاهالي فيلصقون تلك الوقيعة بالمكان..