لا نعرف كيف إنبَثَقَتْ اللحظة الحاسمة التي أحاطت بفنان مثل بيكاسو وجعلته يستوعب الفن الأفريقي ويمسك بغموضه وسحره، ليحوله بعد ذلك الى قماشات رسمه الخالدة.
لم تُوَثَّق تلك اللحظة ولم يشاهد ولادتها او يقع عليها أحد، لكننا لا يمكن ان نغفل حضورها الواضح والأكيد في واحدة من لوحاته المبكرة، والتي أُعتُبِرَتْ إيذاناً بظهور المدرسة التكعيبية، واقصد لوحته الشهيرة نساء أفينيون ١٩٠٧، والتي تظهر فيها خمس نساء عاريات. وتكمن أهمية هذه اللوحة وقوة وعظمة تأثيرها في المرأتين اللتين على جهة اليمين، حيث حرَّفَ وجهيهما وجعلهما متطابقان مع الأقنعة الـأفريقية بما لا يقبل الشك، وهنا يلاحظ من له خبرة بتاريخ الفن ومصادره، كيف جعل بيكاسو وجه المرأة الجالسة أشبه بقناع من أقنعة الماهوني التي تعود للغابون، بينما رسم وجه المرأة الواقفة خلفها وكأنه قناع من المحفورات الخشبية التي تعود لساحل العاج. كانت لحظة استثنائية بالتأكيد تلك اللحظة التي قبض فيها بيكاسو على المنحوتات والأقنعة البدائية ليوظفها في فنه بشكل مذهل. وبعد أن كانت نائمة في الظلام وقابعة في عتمة النسيان لسنوات طويلة، نهض فنان عظيم من مكانه وسلط عليها ضوء موهبته وأطلقها نحو نافذة الحداثة، حتى شغلت الكثيرين بعده وتأثر بها مئات الفنانين وأصبحت هذه الاقنعة مثار تقدير الخبراء وإعجاب المتاحف التي لا تتردد بإقامة معارض كبيرة ومهمة لها وعروض تجذب آلاف الزائرين.
ومن ضمن ما تسعى اليه المتاحف في هذا المجال، يستضيف متحف (نيو كيرك) في أمستردام معرضاً مهماً بعنوان(سحر افريقيا، أقنعة ومنحوتات خشبية من ساحل العاج) والذي يضم مجموعة مذهلة من الاعمال الفنية لأربعة فنانين افارقة معاصرين. ورغم حداثة الاعمال زمنياً نوعاً ما، فنحن نرى غموض وسحر وأصالة الفن الأفريقي ونلاحظ التأثيرات العميقة التي تركها هذا الفن على مجمل الفن الحديث، هنا نستطيع ان نتلمس عملية خلق هذه الاعمال ونحن نتابع الخطوط الحادة والزوايا المحفورة والحزوز المعمولة على السطوح الخشبية، وجوه تعلوها بصمات الزمن وملامح تحتفظ بروح افريقيا رغم حداثتها، نغوص معها ونستحضر مع هؤلاء الفنانين ذاكرة افريقيا، نستعيد بصحبتهم قوة وتقاليد فن القارة السوداء، مع لمسة معاصرة تنساب على سطوح الاقنعة والتماثيل. انظر الى المعروضات وأتخيل الفنانين وهم يمررون أصابعهم وأدواتهم على خشب الغابات ويصورون لنا رؤاهم المليئة بالسحر والرهبة والسكون المعَبِّر.
يشترك في هذا المعرض، الفنانان إيميل غوبيهي ونيكولاس داماس اللذان كانا ينفذان لسنوات طويلة اعمالاً حسب طلب بعض جامعي القطع الفنية، بعدها عرضوا أعمالهم في بعض غاليرهات نيويورك، حيث كان الإقبال جيدا على اعمالهم التي تمثل خيولاً ونساءً تبدو عليهن الغواية او حتى الفجور. والفنان كوفي كواكو وهو ابن لرجل يعمل في مناجم الذهب، وحفيد لنحات وحفار على الخشب. والفنان الرابع هو جيمس كوكو بي، وهو الوحيد الذي لايزال على قيد الحياة من الفنانين الأربعة، واعماله مختلفة ومتعددة المواضيع، فهنا نساء عاريات يتحاورن مع بعضهن، وهناك نرى زورقاً فاتح اللون مليء باشخاص غلب عليهم اللون الأسود، محشورين وكأنهم ينتظرون الخلاص. ومن أعماله إيضاً رؤوس بلون أسود وضعت على الارض، تقابلها رؤوس بلون ابيض، كذلك هناك مجموعة من السيقان التي رُتِبَتْ وكأنها تسير وتتحاور مع بعضها، وهذا العمل نفذه إيضاً على شكل نافورة كبيرة في ألمانيا، التي يعيش ويعمل فيها الآن، وتعرض أعماله في متاحف مهمة وصالات عرض معروفة.
في السنوات الخمسين الماضية ازداد الاهتمام بالفن الأفريقي، وابتدأ الناس بمتابعته بشكل كبير وأقيمت له الكثير من المعارض المهمة والكبيرة، وساهم في هذا النجاح والحضور، ظهور اجيال جديدة ومعاصرة من فناني افريقيا، فنانون فتحت لهم أبواب الغاليرهات المهمة والمتاحف، ووصلت أعمالهم الى المزادات حيث تجاوزت اثمانها ما وصل اليه الكثير من الأعمال الأوروبية.
سحر الفن الأفريقي
[post-views]
نشر في: 3 فبراير, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...