TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > حيث لانحن ولاوطن من مذكرات المنفى

حيث لانحن ولاوطن من مذكرات المنفى

نشر في: 4 فبراير, 2017: 09:01 م

يقول الروائي  ج.م. كوتزي بصوت بطله في رواية (الرجل البطيء)  :
(يقول الانكليز : الصحة والوطن - الوطن بالنسبة لهم المكان الذي تشتعل فيه نار المدفأة -المكان الذي يدفئك فلا تغادره الى البرد ، عند الفرنسين لايوجد وطن ،أن نكون في الوطن عند الفرنسيين يعني أن نكون معا : مع نوعنا - مع عِرقنا - لست في وطني في فرنسا لأنني لا أنضوي تحت أي ( نحن).
هكذا  كنت  في باريس : غير منضوية ، طليقة وحرة  ومكبلة أيضا، بلا عرْق ولاوطن ولا صحبة ، غير متآلفة  بلا رفيق  ولاصديقة حميمة  تنصت لي ، غير آمنة في سكن وملاذ والغد صورة مشوشة غائمة ، غيري كنت ، بل كنت أنا الى أقصى مديات وجودي، متيقظة جدا وعائمة في الفراغ الشاسع للمدينة العظيمة ، أحلق فوق قباب الكاتدرائيات وأعانق اضواء الليل ، تحت الفندق حانة وورشة لامرأة خلاسية  فاتنة تصنع القبعات، تأتي صباحا وتشرع بتثبيت الريش  الملون والزهور الحريرية  والأبازيم  الفضية على القبعات المحاكة من القش أو قبعات الجوخ ، تضع شرائط مموجة وتتأملها ، تنزعها وتضع سلسلة رقيقة مذهبة ، تعتمر القبعة  وتتفحص تأثيرها  على انعكاس صورتها في المرآة  عندما أمر أمامها تبتسم وتخبرني بانكليزية  مخلخلة  انها جاءت من جامايكا وعملت عارضة أزياء  وأحبها زوجها عازف  التشيلو الفرنسي  الذي  يعمل مع فرقة صغيرة  تعزف في ناد ليلي ،تركت  العمل وفتحت ورشتها الصغيرة ، يأتي زوجها الفرنسي على دراجته النارية حاملا آلته الموسيقية  كل مساء ويصحبها الى الحانة القريبة ، تلوّح لي  وانا أطل من النافذة ، تهمس  لزوجها فيلوح لي  هو الآخر.
أهبط سلم الفندق الخشبي المفروش بسجاد أحمر حائل اللون تمزقت حافاته  وتوطن فيه الغبار، أخرج الى  مقهى  فوجيرار القريب  المطل  من زاوية الشارع على محطة مترو  فوجيرار، أطلب القهوة الاسبريسو المرة وأحدق  في المطر يتدفق على الرصيف ويبلل شعر الصبيّة الأفريقية الجعد وقبعة ومعطف  المرأة  التي تدفع عربة طفل ، أمثل  دور امرأة  تنتظر أحدا فأحدق في ساعة يدي ، اقرأ في كتاب ،  فتاة  ورفيقها المراهق يحتسيان البيرة  ويمرحان ، ثمة موسيقى حزينة  تفيض من عتمة الزوايا وتنهمر على الحواس والأجساد وتغطس في أكواب القهوة ، تندفع حشود البشر من  محطة فوجيرار ، يلفظها السلم  الكهربائي  فتنفتح المظلات  وتتراكض الخطا ، لا شيء في  المقهى  سوى  الوحشة المكثفة  وتحت المطر تخلو الحديقة  المجاورة للمحطة من المتنزهين  والمشردين ، أعود الى الفندق و اشتري رغيف باغيت طويلاً  فيؤنسني  شذى الخبز الساخن ، خبز القمح التقليدي المختمر تبوح حموضته بمذاق عتيق  اعرفه جيدا ، أدون فقرات في روايتي و أذرف الدموع  فتتساقط على الكي بورد.
حزني أثقل من جبل، كلماتي تترنح بين ذاكرة عربية  وانكليزية  تعينني في المآزق وفرنسية منطوقة على نحو  مشوه  أو مبتور ، تخرج العبارة  بصوت متحشرج كمحكوم بالموت تحت مقصلة ، كنت أضحك واستدعي الدموع، أبكي واستدعي الضحك.   أقرر الخروج فأرتدي معطفا أسود سميكا له ياقة فراء اشتريته من محل سيدة صينية في حي بلفيل المختلط ، المعطف وطن مستعار وسط زمهرير الشوارع القاسي ، المعطف أليف وحنون يحتضن جسدي و يهمس لي : حسبك ارتعاشا ،انصتي لصوت بلادك البعيد ،استحضري حقول الطفولة المشمسة وبساتين البرتقال وضحكة النهر تحت الجسر، أحكم تثبيت ازراره  وأمضي في مسيرة التيه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. ناظر لطيف

    رائع جدا، شكرا لك

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

 علي حسين ما أن خرج الفريق عبد الوهاب الساعدي ليتحدث إلى احدى القنوات الفضائية ، حتى اطلق بعض " المحلللين " مدفعيته تجاه الرجل ، لصناعة صورة شيطانية له ، الأمر الذي دفع...
علي حسين

باليت المدى: شحذ المنجل

 ستار كاووش مازال الوقت مبكراً للخروج من متحف الفنانة كاتي كولفيتز، التي جعلتني كمن يتنفس ذات الهواء الذي يحيط بشخوص لوحاتها، وكأني أعيش بينهم وأتتبع خطواتهم التي تأخذني من الظلمة إلى النور، ثم...
ستار كاووش

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

محمد الربيعي يضع العراقيون امالا كبيرة على التشكيلة الوزارية الجديدة، المرتقب اعلانها قريبا، لتبني اصلاحات جذرية في مؤسسات الدولة، وعلى راسها التعليم العالي. فهذا القطاع الذي كان يوما ما منارة للعلم والمعرفة في المنطقة،...
د. محمد الربيعي

مثلث المشرق: سوريا ومستقبل الأقليات بين لبنان والعراق

سعد سلوم على مدار عقود، انتقلنا من توصيف إلى آخر: من "البلقنة" في سياق الصراعات البلقانية، إلى "لبننة" العراق بعد التغيير السياسي في أعقاب إسقاط نظام صدام حسين، وصولًا إلى الحديث اليوم عن "عرقنة"...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram