يخطئُ ويتجنى كثيراً هذا الذي يقول بأنَّ البصرة بلا ربيع، ويظلم المدينة أيضاً من يعتقد بأنَّ صيفها القاتلَ قاتلٌ وكريه، وبلا معنى، اما لمن يقول بأن شتاءها بارد قليل المطر، أقول لا والله، شتاؤها الأجمل بين شتاءات الدنيا. أكتب هذا، لا لأني بصريٌّ، بصراويٌّ حدَّ العظم، لكنْ، لأنني عشت فصولها التي كانت لا فصول أجمل منها والله، ووقفت على طينها ومائها ونخلها، ولا أغالي إذا قلت هي الأجمل والأبهى على جمال وبهاء باقي مدن العراق.
فرغت للتو، من تقليم شجرة العنب الوحيدة، التي قرب دارة الخطار، هي ما تبقى من أشجار أبي، وقد اخذت منها ما يزيد عن خمسين قلماً، ساهيئ الأرض لكي أغرسها، ستنبت، وستنمو وساختار الارض المناسبة لها في العام القادم، لكنني ساعود بي الى مثل الأيام هذه، من كل شباط، وقبل نحو من أربعين عاماً، حيث كنتُ وأبي وشقيقاي نمضي الأسبوع والأسبوعين في تقليم غابة العنب التي كانت، المئات من الأشجار اشتجرت وتشابكت والتفَّت حول بعضها وتسلقت النخل والتوت وتناوشت الفسائل القريبة والبعيدة، في مهنة شاقة، يتوجب علينا فيها انتزاع الغصن هذا من الشجرة تلك، والفرع هذا من الأصل ذاك، ثم تعليقها وربط (سبّاحها) أفرعها بالحبال لكي تصبح قمرية العنب مترامية، متوازنة، ولكي تتدلى منها العناقيد ويسهل علينا قطافها في الصيف.
كان شهر شباط الذي نفتتح به الربيع موسماً لتقليم العنب وتطعيم التفاح والبرتقال والتوت، وهو موسم لتهيئة الأرض للخيار والطماطم والباميا، أيضاً، وهو موسم لشراء دشاديش التترون والشَّعري، مثلما هو موسم لشراء سراويل القطن علامة (أبو الأرنب) وحذاء الكتان الابيض من باتا، وهو موسم للكتابة على الارض، حيث كنا نحمل كتبنا المدرسية ونجلس على الطريق التي باتت تصلح للكتابة عليها بنواة التمر، هل بينكم في بلاد الله، من يعرف حلَّ مسائل الرياضيات بالنواة على التراب؟ بل وأكثر من ذلك، كنّا، نحن طلاب الابتدائية والمتوسطة نحلُّ معادلات الكيمياء والفيزياء وتعاريفها بالنواة على الأرض، التي ما هي بتراب رخو، ولا هي بطين جامد، هي بين ذلك والله.
هل أقول بأنَّ رائحة قدّاح المشمش والخوخ تملأ فضاء أبي الخصيب، في مثل الايام هذه، من مطالع الربيع هذا، نعم. وأكثر من ذلك، هلّا رأى أحٌد منكم آلاف الفراشات وهي تتسابق على أفواه الزهر الأبيض والبنفسجي، وهي تتنقل متعجلة الرحيق في الغصون العالية الندية بطلِّ الليل البارد. هل أصف شكل العصافير والبلابل ؟ هل ادلكم على النغم الملائكي الذي كانت تبعث به من مكامنها هناك؟ الى أي الجنان سآخذكم إذا ما تعجلت الشمس ذوبان الثلج في جبال أربيل ودهوك والسليمانية، إذا ما انهدَّ نهر الكارون من عليائه في إيران منحدراً الينا، بغرينه وطميه الأحمر ودخل شط العرب وأنهار أبي الخصيب الألف، عن أية رائحة ساحدثكم؟ وهذا السمك يتقافز على القناطر ويرسل زفرته الى السواقي والغدران البعيدة، انا لا اتحدث عن وهم والله، ولا أقفز على حلم لآتيكم بجمل متوهمة أبداً، هذا الربيع في البصرة يومذاك، هذا بعض مما لو بحتُ بمجمله لكرهتم الدنيا ومن عليها وفيها، لقلتم : ما الذي جرى؟ ولماذا أضعتم جنانكم؟، لماذا لم تحفظوا لأبنائكم ما بها وفيها وعليها ، لماذا يصرُّ حكامكم السفلة على ضياع الفردوس بسُرُجِهِ وملائكته وحورياته. هذا ربيع البصرة فجئني بريع مثله إن كان صيفها قد آذاك يوما ما .
الفراشات تتعجل الربيع فـي البصرة
[post-views]
نشر في: 4 فبراير, 2017: 09:01 م
جميع التعليقات 2
ناظر لطيف
جميل هذا الوصف!! بل ما أحلاه!!هل سيعود هذا؟!!
سالم حسون
كان بيت عمي في الطويسة القريب من شط الحكيمية المواجه للنادي الآثوري من أوئل البيوت التي بنيت هناك الى جانب بيوت اخواننا المندائيين الذين لاتنفصل حياتهم عن الانهر القريبة . في فترة العصاري كان المد يرتفع في الشط ويعلو حتى يصل حافة الشط بدون ان يخرج عنه فنس