TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > محجّةُ الأذن

محجّةُ الأذن

نشر في: 5 فبراير, 2017: 09:01 م

في صباي رأيت على الشاشة "هرقل الجبار"، في هيئة بطلٍ تتزاحك فيه العضلات هو الأمريكي "ستيـﭪ ريـﭬز". ولمْ تُمح الصورةُ حتى في الأيام التي تعرّفت فيها على الأسطورة اليونانية/ الرومانية، حيث هيركيولِس ابنٌ لأب هو الإله "زيوس"، ولأمٍ من البشر الفانين. وبقدر تعدد الأوجه التي يتمتع بها هذا الرجل الأسطورة، هناك العديد من المغامرات البطولية التي يخوضها. ولقد انتفع الأدب والفن من هذه القصص حتى عصرنا الحديث. الشاعر الدرامي اليوناني "سوفوكليس" قدمها في عمله "نساء تراتشِس"، ونوّعَ عليها كلٌّ من "أوﭬيد" في "مسخ الكائنات"، و"سينيكا" في دراما شعرية له. ومن هؤلاء اعتمد الموسيقي الألماني النشأة، الإنكليزي الانجاز فريدريك هاندل (1685ـــ1959) نصاً أعده له الانكليزي "توماس بروتن" لإنجاز عمله "هيركيولِس" (أوراتوريو/ أوبرا)، الذي نجح في إبدال صورة البطل العضلي الهيئة في مخيلتي بصورة بطل تراجيدي، لا أُحسن رؤيته إلا عبر موسيقى الأوركسترا والكورس والمغنين المنفردين. ولعلها الصورة الأكثر تأثيراً.
اقتنيتُ آخر تسجيل DVD صدر لهذه الأوبرا عن "أوبرا باريس الوطنية" تحت قيادة "كريستي". ولكن محجّةَ الأذن في هذا العمل كانت المغنية الأمريكية "جويس ديدوناتو" (مواليد 1969، ميتسو سوبرانو)، التي تقوم بدور "ديجانيرا" زوجة هيركيولِس. فهذه المغنية، قبل فتنة المرأة وجمالها، تمنحُك بكرمٍ فتنةَ الحنجرة والأداء. وبالرغم من أنها اقتصرتْ أو تكاد على أداء ألحانِ كلٍّ من "هاندل"، "موتسارت" و"روسّيني" في أعمالهم الأوبرالية، إلا أن حقل أدائها يتسع للرومانتكيين مثل الفرنسي "ماسينيه" أو موسيقيي الـ"بيل كانتو" مثل الايطالي "دونيزيتّي".وسرُّ إحاطتها بالثلاثة الأوائل كامن في حنجرتها الماهرة في أداء الـ "كولوراتورا" الغنائي الطابعlyric-coloratura . وهو أداء زخرفي، تلون فيه الحنجرةُ طبقتها بدرجات شتى.
وضع هاندل هذا العمل كـ "أوراتوريو" (1744)، بعد أن وجد ميلاً في الذائقة الانكليزية لهذا الفن، مقارنةً بالأوبرا. والفرق بين هذا الفن وفن الأوبرا يكاد يقتصر على الإخراج المسرحي وحده. فهو يُقدَّم على المسرح دون تمثيل وإخراج وأزياء ومكياج. ولشفافية هذا الفارق كانت "هيركيولس" تُقدَّم كأوبرا على الدوام.الحكاية نراها بأزياء عصرية، والمخرج يجتهد في تبسيط الحدث ليمنحه معنى المعالجة للغيرة الجنسية التي تبلغ الجنون المميت، ولا يتحقق الخلاص إلا على يد الجيل الشاب التالي، الأكثر حكمة. كانت "ديجانيرا" تنتظر عودة زوجها هيركيولِس، بعد أن فقدت الأمل في ظنها أنه قُتل في حربة الأخيرة. ولكنه يعود بصحبة أسيرة صبية بالغة الجمال، هي "لولي" ابنة الملك المدحور. مشاعر "ديجانيرا" تبدأ بالارتياب من ميول زوجها العائد، لتتحول إلى عاصفة من الغيرة، تقودها إلى قتل زوجها بلباس مسموم، ثم إلى الجنون. "هيلاس" ابنُها يقع بحب "لولي" ما إن يلتقيا، ويظل يرزح تحت ظل مشاعر الأم السوداء، ومقتل الأدب الدامي حتى يأخذ حبيبته، ويحقق خلاصه في الهرب.هاندل موسيقي المشاعر الفردية، تلك التي تعكس طبيعة الفرد الدفينة. شخوص أوبراه ليست أنماطاً، حتى لو كانت مستوحاة من الكتب الدينية، فكيف إذا ما استوحيت من كتب الأدب والأساطير، كهذه الأوبرا؟ إنهم تشخيص لطبيعة ولمشاعر بالغة التنوع: حب عذب، حب دامي، غيرة قاتلة، نزوع للشر... دراما هذه المشاعر تحتدم في كل واحد من شخوص هذا العمل. لولي أسيرة، ولكنها تواقة للحب والتسامح. لك أن تُصغي إلى أغنيتها الملائكية: "صدري يمتلئ بمشاعر الشفقة من مرأى الويل الانساني، ويشعر بالكرب المتعاطف..".
من صوت ديدوناتو المؤثر اخترت أغنيات ثلاث، الأولى: "هناك  نستريح تحت ظلال الآس، وعلى الضفاف، وعبر ريح الفردوس، في الوحدة الأعذب سوف ننعم بأبدية هناءة الحب."
والثانية: "قف عن ارتفاعك أيها المتحكم بساعات النهار.."
والثالثة: " أي مهرب تُرى، وأين سأُخفي هذا الرأس الخاطئ؟ أيها الخطأ المميت للحب الضال." الأغنيات منفردة يمكن أن تكون بالغة المتعة، ولكنها تتطلع إلى اكتمالها بسماع الأوبرا ككل. مع قناعتي بأن الأوبرا ما زالت شاقة على كثيرين، إلا أنها يمكن أن تتيسر مع ذي الفضول المعرفي والجمالي، الذي لا يمكن أن يُكبح.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بايدن: اتفاق غزة بات أقرب من أي وقت مضى

خرائط وبيانات ملاحية ترصد 77 خرقاً "إسرائيلياً" لأجواء أربعة دول عربية منذ تهديد إيران

مشعان الجبوري يخاطب "السيادة": اعتذروا والا

أمر قبض ومنع سفر لـ"زيد الطالقاني"

برلماني يكشف آخر مستجدات منصب رئيس البرلمان

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

قناطر: في قراءة قانون الأحوال الشخصية

قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959

الدولة لا الاحكام الظنية من تضع للاسرة تشريعاتها

العمودالثامن: لماذا يطاردون النساء ؟

العمودالثامن: من الشبيبي إلى رشيد الحسيني

العمودالثامن: من الشبيبي إلى رشيد الحسيني

 علي حسين لم يكن الشيخ محمد رضا الشبيبي مجرد سيرة حافلة بالمواقف الوطنية، بل كتاباً غنياً لحقبة من الزمن الجميل، كان الشبيبي يريد دولة تقوم على العقل والأخلاق السياسية والاجتماعية وكرامة الإنسان، كان...
علي حسين

كلاكيت: عماد حمدي.. المسطول الذي رثى مسيرته

 علاء المفرجي إذا ما سلمنا أن الممثل عادة هو من صنع المخرج، فأن انطلاقة الفنان عماد حمدي كانت من تلك الفورة الكبيرة في السينما المصرية ومن نشاط المنتج (شركة أو افراد) التي كانت...
علاء المفرجي

قرنان من التشيع والحوزة في العراق.. من 1722 إلى 1922

علي المدن شاهدت الحلقة التي أعدها الأستاذ أحمد الحسيني على قناته في اليوتيوب وكان عنوانها (صراع قم مع النجف.. هل اقترب ظهور المرجع العراقي). وهي حلقة غنية بالمعلومات تنم عن جهد كبير بذله الحسيني...
علي المدن

الدولة لا الاحكام الظنية من تضع للاسرة تشريعاتها

هادي عزيز علي اعتمد الفقهاء المسلمون الاحكام الظنية التي تتسع فيها دائرة الاجتهاد اذ استنبطوا منه الحكم الشرعي من الدليل التفصيلي فيما لا نص فيه للوصول الى قواعد عملية تتعلق بادارة الشان العام بما...
هادي عزيز علي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram