TOP

جريدة المدى > عام > العالم كما يراه فيلسوف الحداثة السائلة:حوار مع السوسيولوجي الفيلسوف زيغمونت باومان

العالم كما يراه فيلسوف الحداثة السائلة:حوار مع السوسيولوجي الفيلسوف زيغمونت باومان

نشر في: 8 فبراير, 2017: 12:01 ص

(القسم الأول)
زيغمونت باومان Zygmunt Bauman ( الذي توفّى قبل بضعة أسابيع ) هو من غير شكّ واحد من أكثر علماء الاجتماع تأثيراً على مستوى القارة الأوروبية وعلى مستوى العالم كذلك ، وتشتمل قائمة كتبه - التي تُقرَأ في كل القارات - نحواً من ستين كتاباً واظ

(القسم الأول)

زيغمونت باومان Zygmunt Bauman ( الذي توفّى قبل بضعة أسابيع ) هو من غير شكّ واحد من أكثر علماء الاجتماع تأثيراً على مستوى القارة الأوروبية وعلى مستوى العالم كذلك ، وتشتمل قائمة كتبه - التي تُقرَأ في كل القارات - نحواً من ستين كتاباً واظب على نشرها بمثابرة واضحة منذ أن تقاعد عام 1990 من عمله أستاذاً لعلم الاجتماع في جامعة ليدز البريطانية - ذلك الموقع الذي شغله على نحو مستمر لما يقارب الثلاثة عقود .
يُعرف عن باومان نحتُهُ لمفردة  الحداثة السائلة Liquid Modernity التي تشير إلى الحالة المعاصرة لمجتمعنا الإنساني مع كل التحولات التي طالت أوجه الحياة فيه بطريقة غير مسبوقة : الحب ، العمل ، المجتمع ، السياسة ، السلطة ، المراقبة المجتمعية ، الهجرة ،،،، ، وتناول باومان في دراساته طيفاً واسعاً من الموضوعات تمتدّ من العلاقات الحميمة إلى العولمة ، ومن تلفزيون الواقع إلى حقيقة الهولوكوست ، ومن النزعة الاستهلاكية الطاغية إلى الجماعة البشرية. وقد توسّع باومان في كل دراساته تلك وجعلها تمتد خارج نطاق تخصّصه في الدراسات المجتمعية باتجاه حقول معرفية أخرى وبخاصة الفلسفة والسايكولوجيا .
وُلد باومان عام 1925 لعائلة يهودية فقيرة في مدينة ( بوزنان ) البولندية ، وحصل أن كانت عائلته هي العائلة الأخيرة التي استطاعت اللحاق بالقطار المغادر إلى روسيا السوفييتية عقب الغزو الهتلري لبولندا في أيلول 1939 ؛ وبذلك أفلتت عائلته من مصير مرعب كان سيحل بها بالتأكيد على يد السلطات النازية . صار بومان ماركسياً بعد وصول عائلته إلى الاتحاد السوفييتي وقاتل في صفوف الجيش الأحمر ، وبعد أن عاد إلى بلده بولندا خدم كضابط سياسي في قوات الأمن التي عُهِدت لها مطاردة معارضي النظام ، ثم خدم بعدها في صفوف الاستخبارات العسكرية السرية حتى عام 1953 . ترك باومان صفوف الحزب الشيوعي البولندي ؛ الأمر الذي تسبب بخسارته لمنصبه كأستاذ في جامعة وارشو عام 1968 ، ثم انتهى المطاف به مهاجراً إلى بريطانيا حيث أصبح أستاذاً في جامعة ليدز حتى تقاعده أوائل تسعينات القرن الماضي .
( الثعلب يعرف الكثير من الأمور ؛ أما القنفذ فيعرف أمراً واحداً كبيراً ) : هذا ماقاله مرة الشاعر الإغريقي آركيلوكوس ؛ لذا ، وفي هذا السياق ، فإن باومان يمكن أن يُعدّ قنفذاً وثعلباً في الوقت ذاته طبقاً للتصنيف الشهير للكُتّاب والمفكرين الذي بشّر به ( إشيا برلين ) ودعمه طوال حياته : باومان ليس رجل تفاصيل أو إحصائيات أو مسوحات أو حقائق صلبة أو استطرادات معرفية ؛ بل هو أقرب إلى رسّام يرسم بفرشاة عريضة على لوحة كانفاس مثيراً النقاشات  والمناظرات المحتدمة مع اقتراحه لافتراضات جديدة غير مسبوقة . ومع هذا الطيف المنظوري الواسع لأعماله فليس ثمة حقل - تقريباً - في ميدان الإنسانيات أو العلوم الإجتماعية لم يقل فيها باومان كلمته أو يكتب شيئاً بشأنها ، وقد قال هو ذاته يوماً وهو يصف حياته : " قضيت حياتي كلها في تدوير المعلومات ودراستها " .
في منتصف وأواخر التسعينات من القرن الماضي اتّخذت كتب بومان منحىً آخر وبدأ يتحدث عن موضوعين منفصلين لكن  ثمة  علاقة بينهما : الاستهلاك وما بعد الحداثة . يتحدث بومان عن تحول المجتمع في أواخر القرن العشرين من مجتمع منتج إلى مجتمع مستهلك - هذا التحول ( كما يرى بومان وعلى عكس ما قال به فرويد ) ناجمٌ عن مقايضة التطور : عُطّلت الحماية من أجل الاستمتاع بأقصى درجات الحرية - حرية الاستهلاك ، حرية الإستمتاع بالحياة . كتب بومان في كتبه ( أوائل تسعينات القرن الماضي ) عن هذا التحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة  ، ومع دخول الألفية الجديدة  لوحظ أن بومان يحاول تجنّب الفوضى المحيطة بمصطلح ( ما بعد الحداثة ) بأن يستخدم مجازاً الحداثة الصلبة والحداثة السائلة .
توفى باومان في منزله بمدينة ليدز يوم 9 كانون الثاني ( يناير ) 2017 ، وقد نشر العشرات من الكتب والبحوث ، ويمكن أن نشير إلى الكتب التالية التي لقيت شهرة عالمية واسعة ( وقد تُرجِم بعضها إلى العربية ) :
- الحداثة والازدواجية ، 1991 .
- Modernity and Ambivalence , 1991
- النتائج الإنسانية للعولمة ، 1998
- Globalization: The Human Consequences , 1998
- الحداثة السائلة ، 2000
- Liquid Modernity , 2000
-  الحب السائل : في هشاشة العلاقات الإنسانية ، 2003
- Liquid Love: On the Frailty of Human Bonds , 2003
-  الحياة السائلة ، 2005
-  Liquid Life , 2005
-  أزمان سائلة : العيش في عصر اللايقين ، 2006
- Liquid Times: Living in an Age of Uncertainty , 2006
-  فنّ الحياة ، 2008
- The Art of Life , 2008
- الثقافة في عالم سائل حديث ، 2011
- Culture in a Liquid Modern World , 2011
-  غرباء على بابنا ، 2016
- Strangers at Our Door , 2016
الحوار التالي منشور أصلاً بالألمانية في مجلة Das Magazin  وكذلك بالإنكليزية في مطبوعة 032c  ( العدد 29 المنشور في مطلع 2016 ) ، ويُلاحظ في هذا الحوار توزّعه على معظم المحاور التي عمل عليها باومان في كتاباته الكثيرة ؛ الأمر الذي يجعل من هذا الحوار ذا أهمية استثنائية في معرفة الخطوط العامة لفكر باومان لمن لم يقرأ أعماله الأصلية .
مهّد المحاور ( بيتر هافنر ) لحواره المعمّق مع باومان بهذه العبارات التقديمية التي تصف شيئاً من صفات باومان الشخصية :
( ... لم يفقد باومان وهو بعمر التاسعة والثمانين أي قدر من  شغفه المعهود بالقضايا العالمية المهمة ، ولايزال قادراً على إدهاش زائريه وبثّ الفكاهة بينهم من خلال العديد من النكات ( الفاحشة ! ) التي تتقاطع تماماً مع الأجواء الكئيبة التي توحي بها رؤيته للمستقبل في ثنايا كتبه العديدة . يلحُّ باومان - كأي أوروبي شرقيّ حتى النخاع - على ضيوفه بأن يتناولوا فطائر الفراولة ، والحلويات ، وثمار العنب الموضوعة على طاولة  القهوة أمامه والمحاطة بأعمدة من الكتب . جلس باومان على مقعده ( الذي بَلِي جلده ) والغليون في يده ، وراح يأخذ كفايته من الوقت في الإجابة على أسئلتنا - تلك الإجابات التي نحتاج إليها كثيراً لأننا نريد أن نعرف ماالذي تعنيه الحياة ؟ ) .
المترجمة

المحور الأول : الحبّ
* بروفسور باومان ، دعنا نبدأ مع الأمر الأكثر أهمية في حياتنا : الحب . تقول دوماً أننا بتنا ننسى كيف نحبّ . ما الذي دفعك لهذا الاستنتاج ؟
-  إن نمط إيجاد شريك على الشبكة العالمية ( الإنترنت ) بات شيئاً مماثلاً لنمط التسوّق الالكتروني . أنا شخصياً لاأحبذ الذهاب إلى المحال بنفسي بل أشتري معظم الأشياء عبر التسوق الالكتروني : الكتب ، الأفلام ، الملابس . إذا ما أراد أحدٌ ما شريكاً فإن مواقع المواعدة الإلكترونية ستُريه قائمة ( كاتالوغاً catalog  ) - وهنا يكمن ما أريد قوله فيما يخصّ سؤالك : نمط العلاقات بين المستهلكين والبضائع صار مماثلاً تماماً لنمط العلاقات بين الشركاء الإنسانيين ! .
* كيف يختلف هذا الأمر مع الأزمان السابقة حيث كان الشركاء المستقبليون يلتقون ببعضهم في الأسواق الخيرية القروية أو الاحتفالات المدينية ؟
- المواعدة الإلكترونية تنطوي على محاولة لتعريف الخواص الاستثنائية المميزة التي تعكس بأفضل مايمكن توق الشريك المنتظر ورغباته ؛ إذ في العادة يتم إختيار الشركاء المرشّحين تبعاً لإعتبارات الشّعر ، أو لون الجلد ، أو الطول ، أو الشكل العام ، أو حجم الصدر ، أو العمر ، أو الرغبات والهوايات ، أو الأمور المحبوبة والممقوتة . إن الفكرة الكامنة وراء هذه الاعتبارات هي أنّ الشخص المعنيّ بالحبّ ( أي الشريك المفترض) يمكن تجميعه من جملة مواصفات جسدية أو اجتماعية قابلة للقياس ، وفي خضمّ تلك العملية يتمّ نسيان البعد الأكثر أهمية بين كل هذه الاعتبارات - الشخصية الإنسانية ذاتها .
*  ولكن حتى لو تمّ الحصول على تعريف كامل للصورة المثالية لمن نريده شريكاً فإن كل شيء يبقى عرضة للتغيير متى ماتقابلنا مع ذلك الشريك وعرفناه عن قرب ، وحينئذ يمكن القول أن ذلك الشريك هو أكبر بكثير من مجموع صفاته الخارجية ( التي تقيسها تلك الاعتبارات)؟
-  الخطورة العظمى في ذلك النمط من العلاقات هي أنها باتت تتماثل مع الطريقة التي نتعامل بها مع الموجودات الدنيوية التي ننتظر من ورائها منفعة مؤكدة : نحن في العادة - مثلاً - لانتعهّد بتكريس شغفنا الكامل بكرسيّ ما ؛ إذ ليس ثمة من مسوّغ يجعلني أتعهّد بإبقاء ذلك الكرسي في عهدتي حتى يوم مماتي ، ومايحصل في العادة هو أنني متى مالم يعد الكرسي ملائماً لي فإنني أبتاعُ واحداً غيره . تلك ليست بالعملية الواعية بل صارت الطريقة التي تعلّمنا أن نتعامل بها مع العالم والكائنات الإنسانية الأخرى .
*  أراك تريد القول أن الشركاء ينفصلون عن بعضهم قبل أن تنضج علاقة الحب بينهم ؟
-  نحن ننغمر في أجواء العلاقات لأنها تَعِدُنا بالرضا والسعادة ، وعندما نشعر أن شريكاً جديداً يمكن أن يكون مصدر سعادة ورضا أعظم من شريك قبله فإننا نبطل علاقتنا القديمة لنخوض واحدة جديدة . لنلاحظ أن البدء بعلاقة جديدة يتطلّب موافقة شريكين ؛ في حين أن فضّ شراكة قائمة يتطلّب رغبة شريك واحد فحسب ، وبالنتيجة سيعيش الشريكان في خوف دائم من إمكانية إقدام الشريك المقابل على فض الشراكة من جانبه ورميه جانباً مثل سترة عتيقة باتت لاتتلاءم مع الموضة السائدة .
*  وهذا خطلٌ في النظرة المفاهيمية السائدة كما أوضحتَ ذلك في كتابك ( الحبّ السائل ) : كتابك المختصّ بالصداقة والعلاقات؟
-  تلك هي معضلة الحب السائل : نحتاج في العادة - خلال الأوقات العصيبة - الأصدقاء والشّركاء الذين لن يخذلونا ولن يجعلونا نسقط أرضاً منكفئين على وجوهنا ، والذين سيقفون بجانبنا وقت الحاجة دوماً . إن الرغبة في الاستقرارية والتماسك واحدة من أهم الرغبات في الحياة ، وإن قيمة الستة عشر بليوناً ( من الدولارات ) التي يُقدّر بها موقع الفيسبوك Facebook منبثقة من حاجتنا لئلّا نبقى وحيدين ، ولكن من جانب آخر نحن نفزع من الشعور بالالتزام تجاه أي فرد بما يجعلنا مقيّدين به والخوف يتلبّسنا من إمكانية فضّ علاقته بنا ( في أي وقت يختاره هو لانحن ) . نتوق إلى ملاذ آمن لنا في الوقت الذي نريد أن نبقى أحراراً تماماً من كل اعتبارات مقيّدة .
*  نعرف أنك بقيت متزوجاً بامرأة واحدة ( جانينا ليوينسن ) لستّين عاماً حتى توفيت عام 2009 . ما الذي يصنع الحب الحقيقي حسب رأيك ؟
-  أرى الحب الحقيقي في الحقائق التالية : المتعة المُراوِغة ( والطاغية أيضاً ) لِـ ( أنتَ و أنا ) عندما يصبحان واحداً ، السعادة العظمى التي تغمر بها حياة شريكك وتصنع علامة فارقة في حياته حتى لو كان صنيعك لايعني الشيء الكثير لك أنت ، أن يشعر شريكك دوماً بأنك موضع حاجته الدائمة وأن مامِن بديل لك في حياته - هذه كلها أمور تبعث البهجة المنعشة في نفس المُحِبّين ، وهي أمور عصية على التحقق عندما نكون غارقين في حدود أنوياتنا الذاتية المعزولة التي تتحرّك طبقاً لدوافع مصالحنا الشخصية وحسب.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الحصيري في ثلاثة أزمنة

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

موسيقى الاحد: احتفاليات 2025

تهـــــــريـــــج

عدد جديد من مجلة (المورد) المحكمة زاخر بالبحوث العلمية

مقالات ذات صلة

رولز رويس أم تِسْلا؟
عام

رولز رويس أم تِسْلا؟

لطفية الدليمي كلّما سمعتُ شاعراً أو كاتباً يقول:"أنا كائن لغوي. أنا مصنوع من مادّة اللغة" كان ذلك إيذاناً بقرع جرس إنذار الطوارئ في عقلي. هو يقولها في سياق إعلان بالتفوّق والتفرّد والقدرة الفائقة على...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram