من غير الممكن ان نتجاهل فضل المقاهي على مدن العراق وأبنائه ، فقد لعبت على امتداد عقود من الزمن دوراً مؤثراً في إثراء الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية وذلك من خلال وجودها وانتشارها الكبيرين في المدن والقصبات حيث لم يقتصر هذا الوجود على التواصل ال
من غير الممكن ان نتجاهل فضل المقاهي على مدن العراق وأبنائه ، فقد لعبت على امتداد عقود من الزمن دوراً مؤثراً في إثراء الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية وذلك من خلال وجودها وانتشارها الكبيرين في المدن والقصبات حيث لم يقتصر هذا الوجود على التواصل الاجتماعي وتزجية الوقت بالأحاديث واللعب بما كانت تقدمه تلك المقاهي من ألعاب معروفة ، انما تعدى ذلك الى دورها المؤثر في بلورة الوعي عند عدد كبير من الشباب عبر الحوارات التي كانت تدور في مجالسها وبسبب ماتوفره من تجمعات ولقاءات لفعاليات اجتماعية وسياسية متنوعة ، فهي ملتقى لرجالات الثقافة والسياسة والوجهاء والعامة . ولهذا تعد المقاهي ذاكرة لواقع المدينة الثقافي والاجتماعي والسياسي ، وقد تحول البعض منها الى مراكز تحريض ضد الحكومات ومنبع للحركات الثورية ما جعل منها موضع خشية الحكومات وهدفا لعيون رجالات الأمن وهجوماتهم المتكررة .
مقاهي المحلات الشعبية
مدينة "الديوانية" عاشت وضعاً اجتماعياً كان الأبرز فيه بساطة العيش وألفة الحياة بين مكوناتها، الأمر الذي جعل الحاجة طبيعية الى وجود مقهى في كل محلة لاجتماع أبنائها للمسامرة وتجاذب أطراف الحديث ويسمى بـ "مقهى الطرف"، حيث يقتصر الحضور فيه على أبناء المحلة نفسها، ووفق هذه الحاجة فقد انتشرت مقاهي المحلات الشعبية مثل مقهى عبيد في حي الوحدة ، مقهى حسين سعيد في الحي الجمهوري ، مقهى طالب في شارع الأطباء، وفي محلة الجديدة ظهر مقهى الضويري والكرفت وكازينو البلدية التي تميزت بحديقتها الرائعة الغنّاء ، مقهى عواد في محلة أهل الشط ، مقهى صنكر في محلة السراي ، مقهى عليوي قرب مدخل الفرقة العسكرية الذي عرفت برواده من العسكريين ، أما المقاهي التي ظهرت قريبة من الدوائر الرسمية فقد كانت محطات انتظار واستراحة لمراجعي هذه الدوائر خصوصا للقادمين من خارج المدينة وأشهرها مقهى عبد داهي ، مقهى الشبلاوي ، مقهى قدوري ، مقهى حاج اسماعيل ومقاهٍ اخرى تميزت بحدائقها اعتاد الديوانيون ارتيادها مساءً مثل : مقهى طارق ، كازينو الطبقجلي ، كازينو ليالي الربيع.
تحاشي المرور بالمقهى ؟
كما ان سوق الديوانية الكبير بالرغم من صفته التجارية الا انه لم يخلُ من وجود عدد من المقاهي تخصص كل واحد منها برواده، فمقهى "الحاج سعيد" كان ملتقى الأدباء والفنانين والمثقفين ، شهد حواراتهم ومشاريعهم ومن أبرز رواده كزار حنتوش ، زعيم الطائي ، عبد الرحيم صالح الرحيم ، سلام ابراهيم ، ثامر الحاج امين ، منير ياسين ، رحيم ماجد ، حمزه عبود وآخرون ، وكذلك مقهى "سلمان الأعسم" الذي توسط السوق حيث كان محطة لتجمع عمال البناء واسطواته وانفرد من بين المقاهي بتقديم الناركيلة ، الاّ ان مقهى " اللواء " الكائن في الصوب الصغير من المدينة وصاحبه "كريم هندي" والساقي فيه ناجي عفلوك يعد الأبرز من بين مقاهيها، فقد صار في ستينات القرن الماضي واحدا من المعالم البارزة فيها بسبب رواده الذين كان جلهم من المعلمين والمدرسين ، وأيام كنا تلاميذ في المرحلة الابتدائية والمتوسطة كنا لشدة احترامنا للمعلم ولفرط هيبته ومنزلته العالية في نفوسنا نتحاشى المرور في الجانب الذي يقع فيه المقهى عندما نروم عبور الجسر الى الضفة الاخرى من المدينة .
المقهى يتحول الى مدرسة وطنية
أما مقهى "عواد" الذي يقع في التقاطع المؤدي الى منطقة أهل الشط المعروفة بولائها للشيوعيين والذي يعود الى عائلة "عواد كرّان" التي لها باع طويل في الحركة الوطنية وقدمت عددا من الشهداء ومايزال المتبقي من أبنائها رموزاً وطنية مضيئة في حركة اليسار العراقي، فقد اصبح هذا المقهى في مطلع السبعينات قبلة وملتقى للشيوعيين والوطنيين اليساريين، وكان يتخذ من الأرصفة المحيطة به أرضية لتوزيع تخوته التي شهدت أجمل الحوارات واللقاءات ومن أجيال متعددة، وكانت الجلسات الصاخبة بالحوارات تمتد حتى ساعات الفجر ، وكان هذا المقهى بحق مدرسة وطنية قدّم دروساً في حب الأوطان والبذل من أجل الحرية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
غاب النرد والدومينو وحضرت الكتب
ليس بعيداً عن هذا المقهى هناك مقهى آخر يقع في منطقة "الجديدة" كان هو الآخر ملتقى لرجالات الفكر والسياسة عرف بمقهى "عبد طامي". والمعروف ان المكان غالبا مايكتسب أهميته ومن ثم بقاءه شاخصا في ذاكرة التاريخ بسبب مايتمتع به من موقع أو اطلالة او من خلال مشاركة غير منظورة في صنع حدث ما ، الا ان هذا المقهى تربع على مساحة كبيرة من تاريخ مدينة الديوانية بالرغم من مساحته الصغيرة وقيامه في زقاق محلة عريقة عُرفت بإرثها الوطني والاجتماعي هي "محلة الجديدة" الأمر الذي يدعو للتأمل والبحث في اسرار وعالم هذا الكيان ، كانوا يصفونه بالمقهى وكنت أستغرب في سري لهذا الوصف فهو أقرب للمنتدى منه الى المقهى ، فالمقهى كما هو مألوف عالم يعج بالجمهور والثرثرة وايقاعات النرد وقطع الدومينو في حين كان مقهى عبد طامي يخلو من كل ذلك ، فلا وسائل لهو فيه ولامذياع يصدح بالأغاني ولاوجوه تتغير بين ساعة واخرى ، كل مافيه تخوت قديمة تآكلت حصرانها ورواد لا يتغيرون ، متميزون بوجوههم الطافحة بالرجولة التي بانت على محياها هموم الوطن وآثار السنوات العجاف ، معلمون ، عمال ، كسبة ، مفصولون ألقت بهم عواصف السياسة على عتبات مقهى عبد طامي يتجاذبون الحديث والنقاش ويتبادلون الكتب بمحبة ظاهرة ، حالمين بغد أفضل وبوطن ينعم بالحرية والكرامة ، لم يتميز المقهى بشيء عن محلة الجديدة فقد تماهى مع شخصيتها وهويتها ومتداخلا مع بيوتاتها البسيطة وأزقتها الفقيرة.
عقال الفيلسوف الفقير وسترته التاريخية
في صباي كنت أتعمد تأخير خطواتي حينما أمر من أمام المقهى ، فقد كان يشدني مشهد الصمت القابع في أركانه ، رجال منكبون على الكتب والصحف ، أما من غص بهم المقهى فقد اتخذوا من التخوت الموزعة في الساحة المقابلة له حلقة للحوار مع "عبدالله حلواص"، الفيلسوف الفقير الحال ، الغني بثقافته وكبريائه والإصغاء بحرص الى كل مايقوله ويشرحه ، فقد قادته القراءة التي تعلمها وهو في السجن الى الاطلاع على الاقتصاد والتاريخ والفلسفة وظل بعقاله وسترته " التاريخية " ودشداشته القديمة منارة المثقفين والسياسيين ، ويذكر عنه القاضي زهير كاظم عبود (كنا نلتقي في مقهى عبد طامي في محلة الجديدة كشباب في مقتبل العمر نلتف حول شيخنا الجليل عبدالله حلواص كحلقة دراسية ، ليحدثنا عن العمال والفلاحين والفقراء والمحرومين والعدالة الاجتماعية ) والطريف ان النقاش كثيرا ماكان يحتدم بينه وبين رجل الدين الشيخ "عزيز طاهر" ، أحد رواد المقهى ، الا انه بعد ان تنتهي فورة النقاش يأخذ الشيخ بيد حلواص ليشاركه الغداء في بيته القريب من المقهى .
البلاشفة في الديوانية
كنت أحيانا أتجاوز خجلي وأقف قليلاً أتأمل المناضل الكبير "كيطان ساجت" بقامته الفارعة وشاربه الكث وهو يتوسط المقهى ملوحاً للجالسين في أمر وكأنه ستالين يخطب في مجموعة من البلاشفة ، كما لم تكن طارئة على ذلك المشهد شخصية "سيد بدر" بالجبّة والعمّة السوداء بمرحه الظاهر وهو يشارك الآخرين نقاشهم وتعليقاتهم فهو ابن الجديدة وشخصية محبوبة وكان عاقداً وشاهداً على زواج الكثير من رواد المقهى ، وحتى عكازة "عبدالله البصير" أو "ابو مهيدي" ــ كما كانت تحلو لرواد المقهى مناداته ــ هي الاخرى تآلفت مع المكان وصارت تهتدي اليه عند الظهيرة حيث يقضي عبدالله قيلولته في المقهى بعد صباح مرهق عند مقدمة الجسر بانتظار ماتجود به أكف المحسنين ولكن السياسة لم تتركه عند حاله فقد سرت اليه عدواها فراح يشارك تلك النخبة نقاشها وهمومها .
ذكريات تقاوم أسّنة المعاول
مقهى "عبد طامي" ،فضاء الأحلام الكبيرة، شهد منذ الخمسينات حلقات نقاش جريئة دون خوف من أعين الرقباء وكان ساحة للأسرار ومركز تحريض ضد الحكومات الفاسدة كما شهد ولادة القصائد حيث وجد فيه الشعراء والأدباء ملاذاً هادئاً فكُتبت تحت ضوء كوَّته القصائد والمقالات وانطلقت منه الافكار والرؤى والتظاهرات . مقهى "عبد طامي"، ومنذ زمن لم يعد قائما فقد أجهزت عليه معاول الإعمار في مطلع تسعينات القرن الماضي في حملة لتحسين حال محلة الجديدة ، أزيل المقهى ولكن الذكريات بقيت تقاوم أسّنة المعاول وظلت تحوم حول المكان أرواح الراحلين من رواده: الشيخ كاظم السمرمد ، الشيخ عزيز طاهر ، فيصل شعلان ، ابو ياس ، صباح كاظم ، فاضل شوغه ، كاظم ابو السّرة ، ناصر عواد ، احمد الرحيم ، صباح رزوقي مثلما ظلت ترنو صوبه بعيون دامعة انظار الباقين: فيصل حسين ، هادي ابو ديه ، عدنان المنسي وآخرين .