احتكاك المخرج الأمريكي كينيث لونيرغن (Kenneth Lonergan 1962-) بكبار المخرجين والممثلين وصنّاع السينما في هوليود، في تكوين تجربة ناضجة وواعية انعكست في فيلمه (مانشستر على البحر/MANCHESTER BY THE SEA) 2016، الذي دخل به سباق الأوسكار، في فئة أحسن فيلم د
احتكاك المخرج الأمريكي كينيث لونيرغن (Kenneth Lonergan 1962-) بكبار المخرجين والممثلين وصنّاع السينما في هوليود، في تكوين تجربة ناضجة وواعية انعكست في فيلمه (مانشستر على البحر/MANCHESTER BY THE SEA) 2016، الذي دخل به سباق الأوسكار، في فئة أحسن فيلم درامي، رغم أنه سبق ورشح لهذه الجائزة في فئة أحسن سيناريو، عن فيلمه الأول (يمكنك الاعتماد علي) 2000، ومن المعروف عن هذا المخرج بأنه يملك خلفية واسعة في مجال كتابة المسرح، ناهيك عن كتابة السيناريو.
حيث سبق وأن شارك في كتابة سيناريو فيلم (عصابات نيويورك) 2002، الذي أخرجه مارتن سكورسيزي، ومثل فيه كل من دنيال داي لويس، وليانردو دي كابريو، وكاميرون دياز، كما نال فيلمه الثاني (مارغريت) 2001، نجاحا كبيرا، لتكتمل التجربة وتنضج ويقدم هذا الفيلم، الذي شارك في إنتاجه الممثل مات ديمون، حيث سبق وأن لعب الأخير شخصية (السيد آرون) في فيلمه المذكور.
عُرض فيلم "مانشستر على البحر" لأول مرة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، خلال فعاليات الدورة الـ13 من مهرجان دبي السينمائي الدولي، الذي جرت فعالياته من 7 الى14 كانون الاول 2016، ضمن برنامج "سينما العالم".
انعكست لعبة المخرج والسيناريست "كنيث لونيرغن" في السيناريو المتماسك الذي كتبه، خاصة وأنه آت من عوالم الكتابة، وهي اختصاصه الأول، لهذا نجد الفيلم وطوال مدته الزمنية (137 دقيقة) يسير في اتجاه تصاعدي، دون أن ينزل مستواه في أي زاوية تقريبا، أي بنفس القوة، إذ خلق فيه توازنا جميلا، حيث نجد في كل فصل شُحنة من العاطفة، يعكسها الحزن الممتد، والندم، والخوف من الماضي، بالإضافة إلى الإثارة التي تجعلنا نستمر بالمشاهدة، والقلق الذي يجعلنا نتفاعل مع الشخصيات، نحزن لحزنهم، ونبحث لهم عن حيّز فرح، يخرجهم من مستنقع الكآبة التي يعيشون فيها، كما أن المخرج وكاتب السيناريو استطاع أن يترك دائما وفي كل مشاهده حيزا ما، للسؤال، ورسم علامة الاستفهام، وكأنّه يحرّض المُشاهد بجمالية وحكمة، على ضرورة عدم تفويت أي مشهد من الفيلم، والذهاب إلى آخره، وهذا بعد أن زرع في ثناياه العديد من العُقد التي تنتظرها حلول ما، وما أن يكشف عن واحدة حتى يزرع أخرى، وكلها تتماشى والعقدة الرئيسية.
من خلال التمهيد الأول لقصة الفيلم، نلاحظ بأن "لي شنادير" (Casey Affleck)، شخصية غاضبة وغير مستقرة نفسيا، وهذا ما انعكس واضحا في ردّه القاسي على أحد زبوناته في العمل، حيث يشتغل كسمكري، بالإضافة إلى الجدال الذي وقع بينه وبين رب عمله، حول كثرة الشكاوى التي تصله من الزبائن، ناهيك عن الشجار الجسدي الذي خلقه في الحانة مع أحد الزبائن، وفي نفس هذا الفضاء أظهر أيضا عدم اهتمامه بالنساء، بعد محاولة إحداهن التقرب منه، من هنا يمكن أن نبني تصورا شاملا عن هذه الشخصية غير السوية في الربع ساعة الأولى من الفيلم، ونأخذ فكرة عنها، لكن في نفس الوقت سنطرح عنها جملة من التساؤلات، التي نبحث فيها عن الأسباب التي حوّلته إلى ما هو عليه، وما الذي سيحدث له لاحقا، لتتعقد الأمور أكثر، بعد أن تصله مكالمة هاتفية، يقرر من خلالها ترك بوسطن، والسفر إلى مانشستر، بعد أن توفي أخوه جو ( Kyle Chandler) بسبب مشاكل في القلب، أين ترك خلفه المراهق باتريك (Lucas Hedges) الذي يبلغ من العمر 16 سنة، حيث وجد نفسه مسؤولا عن الجنازة والدفن، وعن المراهق باتريك، وبعد أن حان موعد فتح الوصية، ذهب إلى مكتب المحامي، حيث وجد بأن أخاه جو قبل أن يتوفى، أوصاه بإبنه "باتريك"، حيث جعله الوصي عليه وعلى المنزل والقارب الذي يملكه، من هنا تتعقد حياة "لي" أكثر، إذ وجد نفسه مسؤولاً من جديد، بعد أن تعود على العيش وحيدا، بعيدا عن الأهل والأصدقاء.
وظّف المخرج كينيث لونيرغن في فيلمه "مانشتر على البحر" تقنية الاسترجاع (الفلاش باك) ببلاغة وفنية كبيرين، حيث استطاع أن يُذيب المسافة بين الحاضر والماضي، وحتى المستقبل، وقلص الهوّة بينهم، وجعلهم تقريبا زمنا واحدا، وقد بدأ هذا الاسترجاع في المستشفى، حيث يعود الزمن إلى الماضي، ويظهر كيف تلقت الأسرة خبر مرض جو، خصوصا "اليس" زوجة جو (Gretchen Mol )، التي سيبدو فيما بعد أنها لم تتحمل هذه الحياة وهربت إلى الإدمان، وهذا ما جعلها تفترق عن زوجها وتتطلق منه، ومن خلال هذه الاسترجاع أيضا نرى بأن "لي" كان يعيش حياة عادية جدا، رفقة زوجته رندي (Michelle Williams) وابنيه، لكن من حين لآخر كان يأتي بأصدقائه إلى البيت، ويسهرون ويشربون، مع رفض زوجته لهذا السلوك، والتي حذرته منه تكرارا ومرارا، وعندما تعود المشاهد إلى الزمن الحاضر، يقوم "لي" بالتحضير للجنازة، ليذهب بعدها إلى مكتب المحامي لسماع الوصية كما سبق وقلت، وهناك في ذلك الفضاء يتم تكثيف الاسترجاع، ذهاب وعودة سريعة، وهكذا دواليك، حيث نكتشف العديد من الحقائق، أهمها علاقة جو بأخيه لي، ووقوفه معه في أكبر محنة عرفها، وهي عندما احترق منزله بالكامل، الذي كانت فيه عائلته، ولم تنجُ إلا الزوجة رندي، والسبب يعود إلى "لي" الذي أذكى الموقد ولم يفعّل الحماية له، هذه هي النكبة الكبيرة التي جعلت هذا الرجل يغرق في هذه الشخصية غير السوية، وقد نقل المخرج مشهد حرق المنزل، والذي جعله مشهدا صامتا بلا حوار، فقط صيحات الأم في الثواني الأولى، تشير فيها بأن ابنيها في البيت، أما بقية المشهد فقد جاء صامتا، يصاحبه عزف منفرد على آلة الكمان، ليظهر حجم الفقد والحزن.
عملية (الفلاش باك) في الفيلم قوية جدا، وركن جمالي عوّل عليه المخرج كثيرا، حيث بنى عليه أحداث الفيلم وتفاصيله الصغيرة، بعد أن أذاب الزمن، وجعله عاملا مهما في نجاح الفيلم، ناهيك عن المونتاج المتوازن الذي سير هذه العملية برمتها، ليشي فيلم "مانشستر في على البحر" بميلاد مخرج سيكون له في هوليود مستقبل كبير، وهذا بفضل هذا العمل المتكامل الذي ساهم فيه أيضا بشكل كبير الممثلين، وعلى رأسهم كايسي افليك، الذي تلاعب بالشخصية وتوحّد فيها، بعد أن عاش كل تفاصيلها الصغيرة، وعرف كيف يكون حزينا وغاضبا، من نفسه، ومن مدينته مانشستر، من ماضيه المُشبع بالألم والأسى، من كل شيء يُعيد إحياء ما وجب نسيناه.